light

light

الأحد، 1 مارس 2015

خصخصة الأسرة ! من شاي الكرك .. حتى التربية


بقلم : انتصار رضي / مارس 2015   


اكتوبر العام 2002 تم اصدار قانون الخصخصة بصورة رسمية في البحرين تماشيا مع الفلسفة الاقتصادية الحديثة التي تنص على نقل الخدمات التي لا ترتبط بالسياسة العليا للدولة من كاهل الحكومة إلى القطاع الخاص . فالدولة، في فلسفة الخصخصة يجب أن تهتم بالأمور السياسية والإدارية والأمنية ، أما فيما يتعلق بالسياحة والمواصلات والكهرباء ومرافق المياه والموانئ والمطارات والخدمات البريدية والاتصالات فيمكن ايعازها إلى القطاع الخاص ضمن أطر تضعها الدولة لتحمي من خلالها موظفي هذا القطاع .
رغم ما للخصخصة من ايجابيات إلا أنه من أهم ما يؤخذ على تطبيقها في الدول العربية تفشي الفسّاد والسيطرة غير المقبولة اجتماعيا وفقا للحقوق المدنية وحقوق الإنسان ، إذ تنازع حفنة من كبار الملاك وأصحاب الثروات السيطرة على قطاعات اقتصادية كبيرة على حساب الكفاءة والجودة لمشاريعهم ( وما حكّ جلدك مثل ظفرك ) . أما الأسرة التي تشكل أعقد وأدق شركة في العالم باتت هي الأخرى تطرح الخصخصة كنتيجة للمحاولات المستميتة  لضبط أوضاعها النفسية والبدنية والشعورية في مواجهة ضغوط الحياة اليومية المتصاعدة ، والتحديات المتفاقمة التي تواجه أولوياتها في عالم اليوم . إذ بدأت الكثير من معالم الأسرة بمفهومها الاجتماعي تصيبها عوامل تعرية خلّفت لنا كائنا عجيبا غريبا لا ندري ماذا نصطلح عليه  بعد موجة خصخصة عارمة كانت أشد وبالا من خصخصة قطاعات في الدولة ، ففي حين حافظت الدولة على إدارة القطاعات التي ترتبط بسياستها العليا ، لم تتوان بعض الأسر في خصخصة لامشروطة لكل مسئولياتها سواء تلك التي تهتم بصناعة الإنسان ، أو الترفيه والسياحة .
فقديما كان الأبناء يرتبطون ارتباطا وثيقا بأسرهم طوال حياتهم ، إذ كان قوام هذا الارتباط المسئوليات التي يتولاها الآباء في إدارة شئون حياة أبنائهم من تعليمهم العلوم الدينية والدنيوية ، بل ويمتد إلى تمهين الأبناء مهنة متوارثة للعائلة من جيل لآخر ، أما الأم وعلى وجه الخصوص فكانت تهتم بالناحية العاطفية والتربوية بشكل أساسي وتدير احتياجات الأسرة بجانبها الخدماتي .
لكن ما يحدث اليوم لا يمتّ لهذا الماضي بصلة ، فعوضا عمّا فرضه عمل المرأة من تنازلات في أدوار الأمومة ، فقد امتدت سلسلة التنازلات لأبسط مهام الوالدين أمام رحى الضغوط والمسئوليات المتزايدة .
نبدأ من كوب الشاي الصباحي ، إذ لازلت أذكر كيف كان والداي رحمهما الله يجتمعان بنا على مائدة الإفطار قبل الانطلاق للمدارس والعمل ، كانت أمي تجتهد في إعداد وجبة إفطار فاخرة جدا متكاملة العناصر الغذائية ، نتيجة إصرار أبي أن الإفطار للجسد كالمسمار للّوحة المعلقة على الجدار، إذا ما أزحته تهاوت اللوحة !! مازالت تلك اللحظات الحميمية التي تجمعنا صباحا معا على مائدة الإفطار في فاتحة كل يوم ، تحفر عميقا في ذاكرتي ، ومازلت وأخوتي نتداول بعض الذكريات حول من استولى على نصيب الآخر في الإفطار، وعن حرص والدي لغلي حليب البقر الطبيعي فقط لا الحليب المبستر وتجشّم عناء شرائه والبحث عنه !! وعن أمي التي تستيقظ مع أول خيوط الفجر كي تعدّ هذه المائدة العامرة . و رغم مرور أكثر من 30 سنة على هذه الذكريات إلا أنها بقت حية لا يعفو رسمها في أذهاننا. أما الآن فلم تعد وجبة الإفطار من مهام الأسرة ، فهي تتوزع بين طرفين رئيسيين ، الطرف الأول محلات شاي الكرك التي أسعف انتشارها في كل شبر الموظفين في الحصول على كوب شاي مخدّر ودافئ ، يكفي لمشوار الطريق للعمل . والمدارس التي بدأ بعضها  يخصص وقتا لإفطار الطلبة من جميع المراحل ، ممن بدى جليّا في خمولهم وكسلهم  ، أنه لا يوجد في جدولهم الأسري ما يسمى بوجبة إفطار!! ولم يختلف الحال عند بعض الأسر في وجبات الغداء والعشاء أيضا التي تم ترحيلها لما توفره المطاعم ومحال الوجبات السريعة من حلول للوقت والجهد لا المال طبعا!
ومن كوب الشاي الصباحي إلى التعليم والتربية التي تمت خصخصتها أيضا ، فالمذاكرة اليومية وحل الواجبات اليومي وحتى المراجعة ليالي الامتحانات كلها مهام كان أفراد الأسرة يتقاسمونها فيما بينهم باتت تؤسس لأجلها معاهد ومراكز تتقاضى أجورا بأثمان باهظة !! أضف لذلك مراكز تنمية المواهب والهوايات التي لم يعد الوالدان يبذلان جهدا و وقتا اضافيا في البحث عن طرق اكتشافها وتنميتها !
والأخطر من ذلك بعض مراكز العلاج السلوكي التي باتت أحيانا تؤدي مهام التربية عن الأبوين ممن تهزهم الرياح يمينا و شمالا و شرقا و غربا، ولم يعوا بعد في أي اتجاه يذهبون ، و أي سلوك يسلكون في تربية أبنائهم ، فيلجأون لتلك المراكز بانسحابية كاملة وتواكل تام لا يشوبه حتى نية البحث في غوغل عن أساليب المعاملة الوالدية مع مثل هذه الحالات!! ومن المضحك المبكي  في إعلانات أحد هذه المراكز المعلقة في شارع عبرته أثناء سفري في بلد خليجي ( نحن نربّي وأنت تحصد ) !
حتى التربية الدينية ، والتي كانت من صميم مسئوليات الأسرة النابعة من قيمها الدينية ، باتت ترحّل للمساجد والمراكز الدينية . وباتت صلوات أبنائنا في رقاب تلك المؤسسات بشكل تام ، فلا يؤدي بعض الآباء حتى جهدا ضئيلا في متابعة ما إذا كان الوضوء والصلاة لأبنائهم يتم وفق الواجبات المنصوصة أم يشوبه بعض الخلل ! وتقوم تلك المؤسسات بإعداد الأبناء لسن البلوغ وتغيراته أمام حرج بعض الآباء في تداول مثل هذه المواضيع في الأسرة !
ومع تزايد العنف الأسري حجماً ونوعاً وأسلوباً ضد الأطفال والذي بدأ يأخذ طابعاً وبائياً ينتشر بشكل خطر فى المجتمع المعاصر وفقاً للتقديرات الاحصائية التي كشفت عنها بعض الجهات الدولية والمحلية ، فلم يعد من المستهجن طلب خصخصة الرعاية الوالدية من بعض الأطفال ، كما عبرت بذلك في موضوع إنشاء مراهقة في الثالثة عشر من عمرها بقولها ( أريد أمّا لي ) أمّا عوضا عن تلك الأم التي تفتتح يومها معي بالشتائم ولا تهدأ حتى يصل صداها لبيت الجيران ، بسبب تأخري في ترتيب حقيبتي ، أو ارتداء حذائي ، أو بسبب اخفاقي في إحراز الدرجات التي تلائم توقعاتها !
ولكي تتضح الصورة المؤلمة بإمكانكم إجراء اختبار بسيط وهو تحليل رسومات الأطفال من مختلف الأعمار ، إذ قمت بمعيّة بعض الأخصائيات في تحليل بعض رسومات الأطفال لأسرهم والتي نقلت واقعا موجعا جدا تمثل في تكرار تصوير بعض الأطفال للوالدين بعلاّقة الملابس ، والتي تستخدم للضرب بشكل دائم . في حين عجز بعض الأطفال عن رسم أحد الوالدين في اللوحة التي تضم عائلته ، بسبب انشغاله الدائم عن أسرته ، واستعاض البعض الآخر برسم أحد الوالدين بحجم ضئيل جدا ، أو رسم الأم وقد امتد لسانها حتى قاع الأرض !!  كم هو مؤلم حين نعنون هذه اللوحات بـ ( هكذا يراكم أطفالكم ) ! فلا عجب إذ كشفت تقارير "الأمم المتحدة" عن أن ما يقرب من مليونى طفل حتى سن الرابعة عشرة في العالم يعانون كل عام بسبب ما يتعرضون له من أفعال وممارسات العنف الوالدي، وأن نسبة من هؤلاء الأطفال تقدّر بمعدل طفل من كل عشرة أطفال يموتون بسبب العنف الوالدي!
وأخيرا حتى مهام الترفيه والسياحة في الأسرة فقد تمت خصخصتها فكل ما على الوالدين في عطلة نهاية الأسبوع اصطحاب الأبناء مع الخدم لإحدى الملاهي في حين يجلس الوالدان على طاولة نائية لشرب كوب الشاي وقراءة جديد البرودكاست في الواتس اب ! للحد الذي جعلني يوما ما أشعر بالحرج الشديد وأنا ألاعب أطفالي في أحد المجمعات التجارية وسط حشد كبير من الخادمات الأندونيسيات والأثيوبيات والفلبينيات !!
أما السفر فباتت هناك جهات مختصة لإعداد برامج سفر وترفيه للأبناء ورحلات خاصة ترفيهية تعليمية بمعيّة مدرّب أو أخصائي يعمل عند متعهد في رحلات يصطحب فيها مجموعة من الأطفال أو المراهقين وينظم لهم برنامجا حافلا بالمسابقات والرحلات التي يعجز الوالدان عن تنفيذها !
ماذا تبقى للأسرة بعد ! سوى أن يستلم رب الأسرة راتبه الشهري ويقوم بتقسيمه على جهات الخصخصة التي تصنع له الإنسان  والبحث عن حميدان ليملأ الميدان التربوي والاجتماعي والنفسي والترفيهي ... !


هناك 8 تعليقات:

  1. هل نعتبرها ضريبة لطبيعة هذا الزمن ومتطلباته، أم أننا كفينا ووفينا بعد تعب الزمن، والحين وقت راحتنا!!

    ردحذف
    الردود
    1. بل هو قرار اتخذناه ملء ارادتنا ألا نجعل الأسرة أعلى سلّم قيمنا

      حذف
  2. كل شيء من حولنا له تأثير، ولكن فعلاً إذا أردنا سنقدر.

    ردحذف
  3. كل شيء من حولنا له تأثير، ولكن فعلاً إذا أردنا سنقدر.

    ردحذف