light

light

الاثنين، 13 يوليو 2015

تجربتي في التطهير التكنولوجي


بقلم : انتصار رضي / يوليو 2015

قرأت مؤخرا كتاب The Winter of our Disconnect لمؤلفته " سوزان ماوشات " حول قصتها كأم لمراهقات كن يعانين من "متلازمة مسك الهواتف باليد" منذ الصباح ودسها تحت الوسائد قبل النوم  ، قبل أن تعمل سوزان على مساعدتهم في تغيير نمط حياتهم ، بإطفاء أجهزتهم الرقمية لستة أشهر متتالية !!
كانت سوزان تستيقظ الساعة الثانية صباحا ، لتجد أصغر بناتها ملتصقة بالماك بوك الخاص بها وهي لا تزال مرتدية زيها المدرسي ! بحثت سوزان عن السبب الذي يدفع أبناءها وهم يلعبون ألعاب في الـ PC ألا يسمعون نداءاتها المتكررة لهم اضافة لتأثير ذلك على أوقاتهم العائلية الحميمية كأوقات الوجبات اليومية و التي باتت الأجهزة تشاركهم فيها .
 وفي لحظة حاسمة قررت سوزان مع أبنائها أن يوقفوا كل تلك الأسلحة الالكترونية لمدة ستة أشهر متتالية وينفصلوا عن كل المشتتات في العالم الرقمي ويلاحظوا التغييرات الجذرية في أنماط النوم ، مستويات الطاقة ، المزاج .
تقول سوزان ساعدتهم الستة أشهر تلك من دون شاشات ، على التواصل مرة أخرى مع الحياة نفسها ، وأصبحت الروابط بينهن أقوى كعائلة ودفعتهن للأمام ولأعلى كأفراد منتجين.
تقول : " ماوشات " في مقدمة إحدى اليوميات في اليوم الحادي عشر إنها الحادية عشرة مساء  تتحدث الفتيات ويقرأن على ضوء الشموع في غرفة نظيفة ، مليئة بالهواء ، وغير ملتصقات بالفيس بوك ، متناسيات كل ما يحدث حولهن .
وتتحدث أيضا حول أمسية قضوها في مشاهدة الصور القديمة المطبوعة وليست الاكترونية مما سمح لهن بالجلوس جنبا إلى جنب حيث يمررن الصور لبعضهن وقد صنع هذا طاقة مختلفة على حد قولها .
لوهلة حين قرأت هذا الكتاب ارتفع مستوى الدوبامين لدي مما يساعد على اتخاذ قرارات متسرعة وباندفاعية شديدة ، وقررت أن أعيش تجربة سوزان تلك، وتجربة الحياة بلا قنوات تواصل اجتماعي لمدة شهر .
 كنت أعتقد أن بإمكاني اتخاذ قراري هذا بسهولة أكثر من سوزان التي وجدت عقول مراهقاتها في بداية تلك التجربة  مقيدة بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا ، لكني وللأسف وجدت أنني كنت ربما أسوء حظّا حين أحسست وكأني في صناديق مغلقة و بأبواب دخول فقط !! وأن هناك مردة يقفون على تلك الأبواب يرتدون زي العصر العثماني ويخفون حذائي مبتسمين يرددون :  دخول الانترنيت مش زي خروجه !
هل حقا نستطيع العيش بدون وسائل التواصل تلك ؟
كان ذلك السؤال يثير عندي اشتياق الباحث إلى النتيجة التي تمحو جهله في موضوع ما بالمعرفة  ولكن ليس أَيُّ معرفة ، وإنما المعرفة العلمية القائمة على المنهج السليم، والمستندة إلى العقل والمنطق والتجربة والبرهان .
ولأني أدّعي احترافيتي في مهارات الكورت ومهارات التفكير العليا فقد ألزمت نفسي بتحديد أهداف قصيرة المدى واستراتيجية لكل خطوة أخطوها . 
كانت القراءة الفاحصة لا المطالعة والتأليف ، على رأس أهدافي في تجربة "التطهير التكنولوجي" كما تسميه فرانسيس بووث في كتابها الرائع الذي أوصي بقراءته : (مصيدة التشتت وكيف تركز في فوضى العالم الرقمي) .
تذكرت حينها الشاعر والمترجم السعودي الشاب أحمد العلي الذي أصدر 12 كتابا ولم يتجاوز عمره 29 سنة !! وذلك بعد أن أغلق صفحاته الالكترونية ليتفرغ للتأليف والترجمة من نيويورك التي كان يحضّر فيها دراساته العليا .
 ولأن ذلك الفراغ الكبير الذي سببه غياب تلك القنوات في حياتي دفعني لمضاعفة حصتي اليومية في القراءة ، وجدت أنه باستطاعتي أن أقرأ ما لايقل عن مائة صفحة بشكل يومي دون توقف أو تشتت !
 التشتت الذي أعنيه والذي أشارت إليه "فرانسيس بووث" في كتابها مصيدة التشتت هو تأثير برامج التواصل والتنبيهات المتتالية في انتقال ما نقرأه من ذاكرتنا قصيرة المدى إلى ذاكرتنا طويلة المدى وتسهب بووث في شرح ذلك شرحا علميا مفصلا لا مجال لذكره في هذه العجالة .
لم يكن الوقت هو عنصر التحدي الوحيد في كمّية وجودة ما نقرأ ، بل ثقافة البرودكاست التي تشبع رغبتنا في القراءة كانت العامل الأخطر الذي توصلت إلى تأثيره السلبي في قراءتنا. فعلى مدار اليوم تنهال علينا الرسائل بمعنى أو بلا معنى ، ورغم ايماني بألا افراط ولا تفريط ، والبحث عن الفائدة وراء كل شيء ، إلا أن ما يحدث في تلك القنوات فاق الإفراط وتعدى حدود الاستفادة من مثل هذه البرامج ! وللأسف فإن الكثير من أوقاتنا تهدر في قراءة الرسائل الدينية التي تحوي أساليب غبية في طلب إعادة ارسالها ، والرسائل الاخبارية التي لا يعرف مصدرها ، والنكت والتعليقات المضحكة السخيفة ، ورسائل تنقل قصصا غرائبية لا يصدقها عاقل،  والأسوء من كل ذلك رسائل ينقلها المرسل وهو لا يفقه منها شيئا أو دون أن يفكر في أن يستفيد من قراءتها !
الهدف الثاني بعد القراءة هو التأمل في الذات .. فسابقا كنا نجد فرصة سانحة للتأمل في أنفسنا وأفكارنا قبل نشرها لمحدودية وصعوبة التواصل الاجتماعي مع جماعات مختلفة الأجناس والايديولوجيات ، لكن مع عصر الديجيتال باتت أول فكرة تلقائية تعبر أذهاننا تجد طريقها سريعا للنشر في صفحات الفيس بوك أو تغريدات التويتر !
 هل تساءلنا مرة كم من الوقت استغرقنا في التفكير في أفكارنا قبل نشرها الكترونيا ؟
 هذه العزلة تسمح لك بفرصة للتأمل بعد تعدد قراءاتك طبعا ، إضافة إلى أجواء التفكير البعيدة عن التوتر والسانحة للمزيد من الابداع وبالطبع هذا ما أثبتته الكثير من الأبحاث العلمية التي أجريت على أدمغة البشر وهم بمعزل عن التكنولوجيا.  وأبرزها تجربة مجموعة من علماء الأعصاب في عام 2010 والتي قادها "ستراير" الأستاذ في جامعة يوتا والذي يعتقد أن الكثير من الانتباه الرقمي يشعر الأشخاص بأنهم معتلّون نفسيا. وليعرف مدى صحة ذلك اصطحب معه ولمدة أربعة أيام مجموعة من علماء الأعصاب بدون هواتفهم المحمولة والانترنيت وبمرور الأيام اكتشفوا قدرتهم على التفكير في الكثير من الأفكار الخلاقة والابداعية والمزيد من الانتاجية وهم بين أحضان الطبيعة !
الهدف الثالث كان ينصب على تحديد إطار العلاقات فوجودك على قنوات التواصل الاجتماعي يعني للآخرين أنك متاحا في كل الأوقات وأنك في متناول الجميع . أعتقد أن هذا هو الهدف الأصعب فللوهلة الأولى ستجد هذا الاطار الواسع من العلاقات يصرّ أن يبقيك وسطه دون تنازل ، والسبب الأول لمقاومتهم لرغبتك هو نقص ثقة الأفراد بإمكانية مواجهتك بمفردك لجبروت هذا العالم الرقمي الشاسع !! تذكرت حينها تجربتي في إرشاد المدمنين في وحدة المؤيد بمستشفى الطب النفسي يوم أن قال لي أحد المدمنين المشكلة الأخطر التي تواجهنا في التعافي من إدمان المخدرات هي حين يوهمنا من معنا من المدمنين بأننا فقدنا خطّ الرجعة !!.. لهذا أنصحكم بخوض هذه التجربة أعني التطهير التكنولوجي بصمت ودون مناقشة مسبقة كما كل القرارات التي تحقق لك ذاتك والتي طالما كررت في أكثر من دورة و ورشة أنك أيها الانسان الشخص الوحيدة الذي يستطيع أن يرى رؤيته لنفسه !
إطار العلاقات الالكترونية والذي يجعلك تنجرف دون إرادة منك للصداقات من خلف الشاشات على حساب علاقاتك في العالم الواقعي هو أول بؤرة ستعيد التأمل فيها في تجربة التطهير التكنولوجي ، وقد كشفت إحدى الدراسات أن 50% من الشعب الأمريكي يفضلون التواصل الرقمي على الشخصي . وقد اندهشت حين عبرت لي احدى طالباتي المراهقات يوما ما أنها منذ 3 أعوام متتالية لم تتواصل مع والدها إلا عبر الواتس اب نظرا لظروف عمله وتفضيله لهذه الوسيلة في التواصل !!
الهدف الأخير والأهم هم أطفالي الذين أحببت أن أقضي معهم عطلة الصيف بعد عام دراسي مثقل بالإنجازات . ولعل ما دفعني لذلك هو نتائج احدى الفعاليات التي نظمها قسم الإرشاد النفسي في مدرستنا لؤلؤة الخليج العربي تحت مسمى الحوار بين الأجيال باستضافة مجموعة من الأطفال مع آبائهم في حوار شفاف حول تأثيرات التكنولوجيا شكى فيه الكثير الكثير من الأطفال أمام أمهاتهم وآبائهم بجرأة ودون خجل من انشغال آبائهم بالهواتف طيلة حياتهم على حساب أوقات اللعب معهم ... قد لا تنتبه لهذا إلا حين يبدأ أطفالك يقولون لك بعد أن تعبوا من مناداتك وأنت تجيبهم بـ : إم إم إم فيعلوا صراخهم اسمعني / اسمعيني !
قد تحرمك هذه التجربة من الكثير أيضا ، فرغم متابعتي أثناء تلك العزلة للصحف إلا أن الكثيرمن الأخبار العاجلة فاتتني معرفتها في أوانها لكن تلك لم تكن نهاية العالم ، فأنا لست محور هذا العالم الرقمي الذي يستمر بي وبدوني !!.. وهي الحقيقة التي أدركتها بعد أن تأملت في حياتنا قبل قنوات التواصل الاجتماعي كيف كانت نابضة ، وكيف كان باستطاعتي في عزلتي توفير البدائل لمعرفة أخبار عائلتي الممتدة .
 هذه الفرصة للتأمل قد نحتاجها لمعرفة كيف نسيطر على التكنولوجيا عوضا عن أن نجد أنفسنا كالخراف لها تتحكم في نومنا وتفكيرنا وتحديد أولوياتنا وعلاقاتنا ... وتسجننا في غرف الحياة البائسة التي يعرّفها "ويليام هنري دافيس" بتلك الحياة المليئة بالاهتمامات ، حيث لا يتوافر لنا الوقت للوقوف والتأمل .. !