light

light

الأحد، 3 فبراير 2019

أبو ياسين فلّاح الأرض .. والعقل






بقلم انتصار رضي فبراير 2019
كنت سابقا ممن يندفعون للكتابة عن أي فقيد عظيم فور سماعي لنبأ رحيله . وكنت أقول في نفسي متعجبة مالنا و كأننا ننتظر خبر رحيله لنبدأ رثاءه والكتابة عنه ! إلا أن الكتابة عن أبي ياسين لم تكن بتلك السهولة أبدا !
الحاج مهدي الرمضان الذي مضى على فقده ستة أشهر رجل جعلني أجوب خلف الكلمات أبحث عن لغة عذراء تليق به !  عن عبارة لم تُكتشف بعد ، فحين تعرف هذا الرجل  فلن تجد لغة باستطاعتها تقطع لك وعدا أن تترجم زخم جراح فقده ! عرفت أنني حين أكتب عنه عليّ أن أتحلى بالشجاعة لشحن تلك المفردات بدلالات مغايرة.. بروح نادرة .. فمن أين لي كل هذا ؟
عرفت مهدي الرمضان منذ ثلاثة أعوام مضت على عضويتي في  منتدى القراء ، ومنذ اللحظة الأولى لانضمامي للمنتدى تأكدت أن هذا الرجل مختلف من طريقة ترحيبه بي ! رجل يشعرك بأهميتك قبل أن يعرفك .
 لم يكتفي بالترحيب بي بكلمات منتقاة بل فاجأني في اليوم الثاني أنه الوحيد الذي بادر خلال يوم من انضمامي للمنتدى بالدخول لمدونتي وقراءة مقالاتي وتحليل توجهاتي واهتماماتي ! لازلت أذكر حين اقتطع مقتطفات من مدونتي وشاركها مع الأعضاء في المنتدى وحفزني على مواصلة الكتابة ! مدونتي التي لم يفكر أقاربي في الدخول لها يوما . لقد شعرت بالزهو والخيلاء أن ما لدي من بضاعة راقت لرجل يبدو مختلفا في مجتمعات تقاوم الاختلاف وتبدو الناس فيها كأسنان المشط !
كنت حينها مفتونة بالحوار والنقاش والجدال أحيانا . بتعصّب أو دون تعصّب .. الحوار في كل شيء ! الحوار عن نيتشه عن صدر المتألهين عن الفلسفة والهويات عن نظرية التطور والانفجار العظيم عن التربية وعلم النفس و الرياضة أحيانا ! وكلما شرعت الباب للحوار وسعيت للتعرف على وجهات نظر المتحاورين فيه كان أبو ياسين يميط اللثام عن قارئ فذ وباحث لم تتوقف رحلة بحثه عن الحقيقة حتى آخر حوار شهدته معه قبيل وفاته . والحق يقال رغم ايماني أنه على المتحاور أن يكون مخلصا ولديه هدف واضح من الحوار وهو الوصول للحقيقة بعيدا عن اظهارالنفس أمام الآخرين لكن الحوار مع قارئ فذ مثل أبي ياسين يتعبك إن لم تكن متسلحا بكل حجج الإقناع . أذكر تماما حين تحاورت معه حول جهود داروين و والس في وضع نظرية التطور ومن أسس لها أذكر أنني شعرت بالهزيمة وهو يسرد الأحداث تاريخيا موثقا رأيه بدقة وبالسنوات  والتفاصيل الدقيقية ! قلت يومها وأنا أحاول أن أتجرد من الرغبة في تحول الحوار إلى تنازع :  من أين لرجل في السبعين من العمر أن يهزم ذاكرتي الثلاثينية !
منذ تلك الهزيمة رحت أبحث عن أبي ياسين في الفضاء الالكتروني ! من هذا الرجل ومن يكون و ما الذي كتب عنه ؟ للوهلة الاولى حين قرأت في أول نتيجة بحث ( الوجيه مهدي الرمضان ) بقيت في ذهول عظيم! منذ متى نسمع أن الوجهاء ينضمون للمنتديات الالكترونية ويقرأون دارون ويناقشون في التطور وفي العلوم والفلسفة وعلم النفس ! كل ما اعرفه أن الوجهاء يعيشون خلف أسوار رفيعة وتلجأ إليهم الصناديق الخيرية لرعاية حفلات التفوق الطلابية التي عادة ما ينيبون أحدا ما لحضورها !
عرفت عنه أنه عاش وترعرع في البحرين في كنف أب لم يكن متعسفًا أو صارمًا في تربيته وأخوته، بل كانت للحرية مساحة واسعة في فكره وفي سلوكه معهم كما عبّر على حد قوله بأن هذ الأمر الذي سمح له ولأخوته أن تكون لهم خياراتهم اليومية .
كان أبو ياسين يعتز بالفترة الزمنية التي عاشها في البحرين كما بدا لي من اللقاءات التي مررت عليها كما أنه كان من الطلاب الجامعيين الذي لم يقصد الجامعة من أجل شهادة وحسب بل من أجل بناء شخصيته وبلورة فكره .. هذا الفكر الذي جعله علامة فارقه في مجال الزراعة في وطنه .
يندر أن تحاور أبي ياسين في أمر فلا يتعبك ! لقد علّمني أن رحلة البحث والقراءة لا تتوقف أبدا كنت أتساءل في حضوره كثيرا عن عذاب القراءة التي تبدو لي رحلتي فيها كإبراهيم وهو يبحث عن ربّه وكلما بدا له كوكب قال هذا ربي هذا أكبر .. قلت له يوما القراءة كهذا العذاب تماما . وعرفت يومها من ردوده أن هذا الرجل مرّ بالكثير من المخاضات لتنتج أبي ياسين الذي وجده من زاره قبل رحيله مطمئنا لمعرفة من هو و جوهر قيمته وهدفه الوجودي .
غادرت منتدى القراء ، أخذتني أمومتي الجديدة بعيدة عنه ، عرفت حينها أن أبي ياسين بدأ يصارع المرض الرجل الذي لم أهزمه مرة في نقاش كنت مطمئنة أنه سيخرج من هذه المعركة منتصرا ! أنهى أبو ياسين تجربته الذهنية قبيل رحيله : ( إن ما توصلت إليه جعل لحياتي هدف ومعنى ) .
لقد أتعبني هذا الرجل في معرفة كينونته رجل لن تحيط بكلّه مهما بذلت قصارى جهدك ، فإن كان هذا العالم كله بحجم نقطة في عقله ، وهذا العالم محكوم بأبعاد هندسية وقوانين فيزيائية ومنطق ، ما كان سيحدث لرجل خرج بوعيه من هذه النقطة  وتجاوزها لمساحة أكبر !
قرأت حواراته الأخيرة وجدته وهو يكسر كل مضامين هذا العالم ( لم يعد جسمي المادي هو حدود كياني المكاني بل توسعت كينونتي حتى شملت الكون بما فيه من وجود وموجودات ) .
شعرت وأنا أقرأ حوارته الأخيرة أن عقلي يماثل جهاز الهاتف الذي كان بيدي بكل امكانياته العظيمة التي لا أعرف منها إلا إرسال الرسائل عبر وسائل التواصل .. وعرفت حينها أن عقله العملاق عرف كيف يخرج من هذا القمقم ! وهو ما لم أستطعه بعد ..


سلام مني إليك حين فلحت أرضك
 وعقلك ..