light

light

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

مدريدي أو برشلوني !



بقلم : انتصار رضي / أغسطس 2015
ذهبت مع أبنائي للتسوق و شراء احتياجاتهم المدرسية لبدء العام الدراسي الجديد هناك فاجأني طفلي محمد 4 سنوات حينما حملت حقيبة ريال مدريد وقلت له مبتسمة هل تريد هذه الحقيبة ؟ لعلمي بقناعته بأنه من مشجعي هذا الفريق همس في أذني متسائلا ببراءة وخوف : كيف أشتري حقيبة ريال مدريد وأصدقائي  في المدرسة يشجعون برشلونه ؟ لم يكن هذا الموقف الأول الذي أواجهه مع أبنائي في قلقهم من التعبير عن خياراتهم ، فقد سبق أن جاء طفلي علي يوما باكيا في الصف الأول بسبب سخرية زملائه منه حين تعرض فريق برشلونه لخسارة فادحة ! وما يتبع ذلك من استهزاء واستقواء على من يختلف عن المجموعة ! وهو ما دفعني للبحث كثيرا في كيفية علاج هذه المشكلة .
لازلت أذكر أهم بروتوكولات التنمّر المدرسي عندما كنت في الصف الأول الابتدائي ، والذي يفضي إلى مضايقة مجموعة من الطلاب معنويا بالإغاظة والتهكّم وإلقاء الألقاب على سبيل الإستهزاء، عبر التحشيد الذي يقوم به طلبة فرقة معينة في مسيرات طفولية تندد بفرق أخرى من الطلاب وينادون فيها بشعارات تستهزئ بفصول أخرى ليس لسبب يذكر سوى أن هؤلاء من فرقة " أ " وأولئك من فرقة " ب " !!!  . الآن أجد تلك الشعارات مضحكة جدا ، لكنها كانت مرعبة إلى حد ما بالنسبة لي في طفولتي ، باعتباري من فئة المسالمات وقتئذ ممن لا ناقة لهن ولا جمل . و عادة ما كان يقوم بترديد الشعار "عنتر القاووش" الذي يحمل على أكتاف طلاب لا يعرفون معنى هذا الشعار ولماذا هم يرددونه ولأية غاية ، الشيء الوحيد المعلوم أننا نختلف في حروف فصولنا أ ، ب ، جـ .  طبعا هذا أحد أساليب التنمّر التي كانت تتوارث عبر الأجيال من عام لآخر قبيل أن تبدأ المدارس بالقضاء على هذه الظاهرة في مدارس البنين والبنات ، أو ربما الأصح تتبدّل مظاهر التنمّر عبر الزمن بما يتلاءم مع عصر الديجيتل  من خلال رسائل قدح وذم عبر البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي !
مازلت مشكلة التنمّر أكبر  مشكلة تواجه المجتمع المدرسي في جميع المراحل على اختلاف البيئات الثقافية ففي أحدث احصائيات أجرتها وزارة العدل، قسم الصحة و خدمات الانسان الأمريكي، مركز دراسات البلطجة الالكترونية لعامي  2011 و 2012 أن نسبة الطلبة اللي بلغوا أنهم تعرضوا ا لبلطجة في المدارس: 37% ولعل هذا الرقم يتضاعف مع الحالات التي لا تجرؤ على التبليغ .
بغض النظر عن الممارسات التي تعتبر تنمرا أو مدى شيوع التنمر وما هي أضراره الجسدية والنفسية ، أحببت أن ألقي الضوء على زاوية هامة جدا وهي كيف نربي طفلا لا يكون ضحية من ضحايا التنمّر !
من خلال خبرتي في العمل المدرسي فإن أغلب حالات التنمر وسلوك البلطجة في المدارس يبدأ من تأثير الأقران والمرء على دين خليله . ومن خلال دراسة الحالة للكثير من الطلاب الذين يتنمرون  يتبين أنهم في الغالب ممن كانوا ضحايا تنمر من جهة أو ممن يتنمرون خوفا من الإقصاء من جماعات الأصدقاء من جهة أخرى ! وفي الحالتين فإن العامل المشترك هو ضعف توكيد الذات ! وتوكيد الذات باختصار شديد هو : أن تحترم ذاتك ، وتعبر عن نفسك وأفكارك ومشاعرك ومعتقداتك بطريقة مناسبة دون قلق .
مهارات توكيد الذات من الضرورات في التربية فهي تعزز عند الأبناء قيمتهم الذاتية وتساعدهم في التعامل مع الضغوطات والاستقواء من قبل المتنمّرين ، وتلعب هذه المهارات دورا هاما في تقدير الأفراد لذواتهم وإعطائهم الحق في التعبير عن خياراتهم وتوجهاتهم واختلافاتهم بحرية مطلقة.
أحد أهم أسباب ضعف توكيد الذات هو الخلط بين توكيد الذات والسلوك السلبي ، ففي ثقافتنا العربية لازال الكثير من مهارات توكيد الذات يعنون بالغرور أو التعالي أو حب الذات ، وهذه الثقافة السلبية تفضي بلاشك  إلى عجز الطلاب عن وضع حدود بينهم وبين الآخرين وقد يتمثل هذا بصورة بارزة في خوفهم من قول "لا" للآخرين ولمطالبهم المستمرة وغير المبررة التي تؤدي بالنتيجة لجعل الطالب ضحية للاستقواء .
ضعف توكيد الذات  يبدأ من أسلوب الرعاية الوالدية ، كنت قبل 12 عاما أدرس حالة طفل لدي في الصف الأول يتعرض للاستقواء بشكل يومي من قبل زملائه الطلبة و رغم كل جهودي في علاج الحالة إلا أن معاناته ظلت قائمة . وكانت تلك الاعتداءات المتكررة تؤدي به إلى الغياب المتكرر دون عذر ، المعاناة في صمت ، التأخر الدراسي ، تأجيل الأعمال ونسيانها .. وهي كلها طرق تعبر عن محاولات العقل الباطن للإحتجاج على الوضع القائم ولكنها تبقى طرق غير ناضجة ..غادرت المدرسة لتحضير الدكتوراه وحين عدت إليها كان هذا الطالب في المرحلة الإعدادية ، وكان يعاني حينها من إجبار والديه له في اختيار مساقات التخصص الأكاديمي التي تخدم تخصصه الجامعي الذي أختاره له والداه خلافا لرغبته الشخصية ! أدركت حينها أن الإستقواء يبدأ من البيت .فإن كنا بشكل مستمر نرفض طلبات وخيارات أبنائنا فسنحكم عليهم طوال حياتهم البقاء رهنا لأولويات الآخرين بدلاً من احتياجاتهم وهذا سيجعلهم لقمة سائغة للمتنمّرين وضحية أولى لكل أساليب الاستقواء.
طبعا يتبع هذا الخلط شيوع الكثير من الاعتقادات الخاطئة التي بحاجة إلى تصحيح والتي تدفع بالإنسان كثيرا للفشل في تقبل حقوقه المشروعة . ومن تلك الحقوق المشروعة على سبيل المثال لا الحصر حقك في أن تعتبر نفسك الأول أحيانا ، حقك في أن تغير مسار تفكيرك عمليا ، حقك في أن تقاطع الآخرين من أجل الاستيضاح والفهم ، حقك في أن تخطئ في أن تشعر بالألم وتعبر عن هذا الألم ، حقك في أن تتجاهل نصيحة الآخرين ولا تأخذ بها ، حقك في أن تقول لا دون حاجة إلى تبرير تلك الـ لا ... إلخ .
أيضا أحد أهم أسباب ضعف توكيد الذات  التي تساهم في جعل الطالب ضحية للاستقواء هو القلق المفرط على مشاعر الآخرين ويتبع هذا الإكثار من الموافقة الظاهرية لقرارات الآخرين : مثل نعم، حاضر، أبشر.... الخ وتقديم الطالب شعور الآخرين على شعوره وحقوقه وكثرة الاعتذار للآخرين دون حاجة للإعتذار ومن ثم ضعف القدرة على التعبير عن المشاعر والرغبات والانفعالات وضعف القدرة على إظهار وجهة نظر تخالف أراء الآخرين ورغباتهم وعدم الحزم في اتخاذ القرارات والمضي فيها وتحمل تبعاتها وضعف التواصل البصري بدرجة كبيرة .
بالإضافة لتلك الأسباب فسلوك الإنقاذ السلبي الذي ينتشر بكثرة في الأوساط المدرسية يساهم في ضعف توكيد الذات ويهيئ الفرص للتنمّر ، وأعني به مساعدة الآخر الذي هو بغنى عن المساعدة وأن يضحي الفرد بحاجاته لصالح شخص آخر يستطيع أن يساعد نفسه ويشبع حاجاته . كما يفعل بعض الطلاب بتوزيع مصروفهم اليومي أو أدواتهم المدرسية لزملائهم الطلبة دون حاجة تذكر . ينتج هذا السلوك من عدم ثقة الفرد بنفسه، وشعوره بأنه اقل أهمية من الآخرين ، وهذا يقلل من إيمانه بقدراته وامكاناته، وأن تلك المساعدات تملأ بصورة لا شعورية نقص الثقة الذي يعانيه ، لكنه من جانب آخر يفتح أبواب الاستقواء عليه والتضحية به في حسابات المتنمّرين .
بلاشك فإن التنمّر قضية شائكة وأسبابها كثيرة قد يكون توكيد الذات أحد تلك الأسباب . أيا تعددت تلك الأسباب وتفرعت فهي تبدأ من أحضاننا . فبقدر ما نمنح أبناءنا في الأسرة من الحب والثقة ونساعدهم في تكوين مفهوم ذات إيجابي ومستويات عالية من تقدير الذات لديهم بقدر ما نجعلهم في مأمن من شراك التنمّر .

 نحن الآباء والأمهات من نكتب قدر أبنائنا في أن يكونوا من المستضعفين في زاوية ما من المدرسة مسلوبي المصروف اليومي و وجبة الفسحة والرأي والحق في الدفاع عن النفس .... أو أن يعبّروا عن أنفسهم ومشاعرهم وأفكارهم بحرية تامة ولا يخشون في تشجيع فريقهم الرياضي لومة لائم .. برشلونيين كانوا أم مدريديين.. !