light

light

الأحد، 15 مارس 2015

زهـــايمر الأبنــاء !!


بقلم : انتصار رضي / مارس 2015

شاهدت قبل أيام فيلم  Still Alice والذي يحكي قصة عالمة لغويات تؤدي دورها  Julianne Moore تصاب بداء الزهايمر المبكر ، في مقتبل الخمسينات من عمرها في حالة نادرة جدا !! الزهايمر الذي يصيب المخ ويتطور ليفقد الإنسان ذاكرته وقدرته علي التركيز والتعلم، ولا يوجد حتى الآن علاج ناجع له . يصيب في العادة الذين تعدوا 85 عاماً من عمرهم إذ يبدأ الزهايمر بإصابة المريض بفقدان غامض للذاكرة، ويتطور سريعا، حتى يفقد المصابون به القدرة في التعرف على الأماكن، الأزمنة ، وجوه من يحبون، ولا يستطيعون حتى الاهتمام بأنفسهم .
Alice Howland التي ملأت الدنيا وشغلت الناس بأبحاثها في اللغة ومؤلفاتها التي ترجمت للعديد من اللغات ، والتي تخرج على يديها المئات من طلبة الجامعات وصيتها الذي لم يغب عن أهم المؤتمرات في مختلف الدول تبدأ فجأة ومن دون سابق إنذار بمواجهة حالات فقدان ذاكرة مؤقته تفقدها القدرة على التركيز في الكتابة والحديث أو حتى اختيار وجهتها في الطريق الذي تسلكه . ينتهي بها المطاف إلى طبيب الأعصاب الذي يؤكد لها اصابتها بداء الزهايمر المبكر كحالة نادرة جدا في العالم !
أن تكون بلا ذاكرة ! لوهلة تمنت Alice  لو أنها كانت مصابة بداء السرطان ، عوضا عن أن تكون ضحية الزهايمر ، إذ ليس من السهل أن تكون بلا ذاكرة ، بلا ماضي  بلا أمس . بدأ كل شيء يتسلل من ذاكرة Alice  ، المعارف والعلوم والأبحاث التي قضت عمرها في جمعها ، المؤتمرات التي تصدّر اسمها فيها ، وجوه طلابها ممن اكتظت قاعات الجامعة بهم ، ليس هذا وحسب ، بل الأكثر ايلاما وجوه أبنائها ، زوجها ، المفردات البسيطة جدا التي لا يجهلها طفل لا يتجاوز الثالثة من عمره .. Alice  بلا ذاكرة !
عبّرت Alice  عن وجعها في احدى الفعاليات المتضامنة مع مرضى الزهايمر ، قبل أن يقضي الزهايمر على ما تبقى من ذاكرتها ، " حين تجهل من تكون " ؟ تتسلل من ذاكرتك اللحظة الأولى التي أحببت فيها ؟ ليلة زفافك ، تفاصيل رحلاتك ، حين تنسى ذلك الخدر اللذيذ الذي تسلل لقلبك وأنت تستقبل مولودك الأول ، وتفاصيل نموه ، المرة الأولى التي قال فيها " ماما " واللحظة الأولى التي وضع كفيه على الأرض وتعلّم كيف يحبو ، والفاكهة الأولى التي أحبها وهو صغير ، واللحظة التي وضع كفيه الصغيرتين في كفيك ومشى برفقتك في ترهات المنزل، واليوم الذي ودّعته على مقعده في المدرسة و ودّعك بدموعه .. يوم تخرّجه .. حفل زفافه .. ثم قسمات وجهه .. ثم اسمه .. كل هذا يسقط من ذاكرتك للأبد !
 إن ما فاقم الألم عند Alice  بعد اصابتها بالزهايمر هو أنها " أم " !! الأمومة هي حجر الزاّوية في صرح السعادة الزوجيّة كما يقول توماس جيفرسون. إذ ليس من السهل أن تصارع الأم شعور النكران لماضيها مع أبنائها وهي حيّة ترزق ! وتعجز حتى عن تذكر مقادير الحساء الذي يفضّلونه ، أو الطريق الذي يقود إلى غرفهم ، أو المكان الذي ترتب فيه ملابسهم ، أو أن تشاركهم الحديث عن بعض ذكريات طفولتهم في ليالي الأعياد أو الجلسات العائلية !
كيف لذلك القلب الكبير بمشاعره الجياشة وأحاسيسه المرهفة أن يتنصّل من الشعور بالمسئولية قهرا تجاه من حملته في بطنها تسعة أشهر ، وامتص من جسدها الغذاء ليحيا ويكبر ، فإذا ما حان وقت خروجه لهذه الدنيا ، تجرعت المرار في ولادته و وضعه أضعاف ما كانت تعاني في حمله ، وما إن يطل وجهه حتى تحتضنه متناسية كل أوجاعها . ليس من السهل أن تنسى الأم هذا من دون إرادتها ، وهي التي أفنت جسدها ليكبر وينمو ولدها، الذي لم يكتف بمشاركتها الغذاء في بطنها ، بل بعد الولادة في رحلة رعاية وعناء وصبر ومشقة ، تترجمها تلك العواطف التي جبل الله عليها قلوب الأمهات في حالة أشبه بالمعجزة الإلهية وهي تحتضن الطفل الرضيع حتى يشب ويكبر . ليس من السهل على الأم أن يدمّر داء الزهايمر خلايا المخ المنوط بها حفظ هذه الذكريات واسترجاعها في اللحظات النادرة !
في حين بالمقابل بات من السهل جدا على الكثير من الأبناء في ريعان شبابهم أن يدمروا بصورة مبكرة خلايا ذاكرتهم مع الأمهات بإرادتهم ومن دون الحاجة إلى داء . إذ لم تترك التحولات الديموغرافية في مجتمعاتنا وما ترتبط به من زيادة المخاوف كلّما ازداد الاستهلاك والإنفاق والصراع الاقتصادي وتراجع الدخل ، لم تترك بدّا من ترك تشوهات في العلاقات بين الأبناء والآباء تنتهي كثيرا بقصص مأساوية يشمئز منها الأسوياء . فتحت هذه التغيرات باب الأنانية على مصراعيه فلم يعد يتجاوز تفكير الأبناء نطاق دوائرهم الخاصة الضيقة ، مسكن للزوجة ، وبعض متطلبات الاستهلاك الفاخر للعيال. أما الأم التي انتهى دورها على مسرح الحياة بالنسبة لهم لم تعد جزءا من الذاكرة يرسل لك منبهات للحاجة للسؤال عنها إلا وقت الغداء الأسبوعي أو في عيد الأم السنوي!
بات من الضروري مناقشة هذا الواقع بوضوح ، والأسباب التي تقف خلفه حتي تكون العلاقات  بين الابناء والوالدين على نحو أفضل . فغياب الاستثمار الحقيقي في التربية هو أحد أهم أسباب العقوق. نعم ، فالتربية السليمة تقوم على الاستثمار الأمثل في الأبناء ، ما تزرعه اليوم من قيم في أبنائك ستجني ثماره غدا ، وما تلاقيه في كبرك ما هو إلا تسديد حساب ودفع ديون قديمة كانت تقتطع من راحتك ، شبابك صحتك ، مالك و وقتك ، وإذا ما كان أعلى سلّم قيمك أنت في إبان طفولة أبنائك رعاية أسرتك ، فهذه الرعاية ستجني ثمارها في شيخوختك ، إذ أن هذه القيمة هي التي تحدد أولويات أبنائك في الحياة وترسم طريق سلوكهم ومشاعرهم حاضرا ومستقبلا.
غياب الوازع الديني أيضا لدى الأبناء يولّد المزيد من النقائض التي تطيح بالعلاقة بين الآباء والأبناء ، فقد بالغ الإسلام في الحرص على بر الوالدين وقرن الله تعالى بر الوالدين بتوحيده وعبادته إذ يقول سبحانه : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا (36) النساء . وبلغ من عظمة الإسلام أن يقدم برّ الوالدين على الجهاد في سبيل الله تأكيداً على حقوقهما، وإمعاناً في التوصية بهما خيراً ، وأوجب برهما حتى بعد وافتهما. إن ضعف التربية الدينية في الصغر وعدم تخليق الأبناء بأخلاق الإسلام وتطبيقها عمليا في حياتهم اليومية يقود إلى العقوق في الكبر لا محالة .
عقوق الوالدين تبدى الآن في أشكال جديدة فليس من الضروري أن يكون العقوق  بطريق مباشر يقود إلى ترك الأبوين في دار المسنين والعجز عن رعايتهم ،  بل قد يكون مغايرا  بطريقة غير مباشرة تفضي إلى دحرجة الوالدين إلى حتفهم المبكر عبر الإهمال المغلّف بقشور الاهتمام !! كالتزام الأبناء بالمجيء " جسدا " لتسجيل الحضور في الاجتماع العائلي الأسبوعي حول مائدة الوالدة العامرة بعد نسيانها التام طوال الأسبوع  دون ترك فسحة للاستماع لسخافتها أو قصصها . ولا يتردد البعض في فهم برّ الوالدين بالكم لا بالكيف إذ يقضي البعض جلّ اليوم الأسبوعي الوحيد في كنفها عبر التجول في صفحات التواصل الاجتماعي أو الأحاديث الجانبية بين الأبناء والتي غالبا ما يحصل الوالدان فيها على " كارت أحمر " فلا شأن لهم في كل ما يقال ولا شأن للأبناء فيما لم يقله الوالدان بعد !!
من عقوق الوالدين بطريق غير مباشر أن يصيّر الأبناء الأم خادمة لهم عوضا عن كونهم خدما لها ، وقد تفعل الأم ذلك بسعادة غامرة نتيجة عاطفتها التي لا تنضب ، فبعد أن تنتهي مسيرة تربيتها لأبنائها يبدأ الاتكال عليها في تربية ورعاية أحفادها ، في حين يتنصل الأبناء من كافة المسئوليات اتجاه أطفالهم . وكأن هذه الأم خلقت مصداقا لتلك المقولة البالية أن "الأم شمعة تحترق من أجل الأبناء" ! ولا أدري ماذا يتبقى من فائدة ومعنى لشمعة محترقة !
لاشيء يعادل سعادة الوالدين من أن يعرفوا أنهم في الجزء الأهم من ذاكرة أبنائهم عبر اتصال يومي عابر أو زيارة خاطفة أو رسالة قصيرة .. الأم ليست بحاجة إلى انتظار يوم واحد في السنة لتعرف مقدار حجمها في قلوب أبنائها !  ليست بحاجة إلى هدايا فاخرة  تباهي بها قريناتها كمصداق لحب الأبناء لها .. وليست بحاجة إلى تجمع عائلي أسبوعي يسجل فيه الأبناء حضورهم على المائدة وحسب ! الأم تحتاج إلى ذكريات تملأ بها خلايا ذاكرتها التي لم تعطب بعد !


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق