light

light

الأربعاء، 25 أبريل 2018

طفل معاميرندو .. والتجارب الوجدانية العميقة ..



   
Image result for ‫معاميرندو‬‎

بقلم انتصار رضي / أبريل 2018
قبل شهرين اتخذت قرارا بسحب الألعاب الالكترونية والأجهزة الذكية من أطفالي بعد قلقي من احتمالية اصابتهم بأعراض "اضطراب ممارسة الألعاب الالكترونية " . أخذت هذه الخطوة بعد شهر من إدراج منظمة الصحة العالمية هذا الاضطراب للمرة الأولى على قائمتها التي تحدد اضطرابات الصحة العقلية في مسودة المبادئ الإرشادية للإصدار الحادي عشر من التصنيف الدولي للأمراض .
كانت المنظمة قد حددت أبرز سمات هذا الاضطراب بإعطاء المصابين به الأولوية لممارسة الألعاب الإلكترونية بدلا من أنشطة الحياة وروتينها اليومي ، والعجز عن التوقف عن ممارسة الألعاب الإلكترونية رغم العواقب الوخيمة .  إبان ذلك أصدرت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال توصياتها بشأن استخدام الأطفال للأجهزة الذكية بعدم السماح للأطفال من سن الولادة إلى 12 عاما باستخدام الأجهزة الذكية أو ألعاب الفيديو بأنواعها مطلقا أما في عمر المراهقة فيكفي نصف ساعة يوميا لألعاب الفيديو وأوقات محددة للأجهزة الذكية.
لن يتقبل الأطفال قرار اختفاء الأجهزة التي استمروا في اللعب بها بكثافات عالية لكنهم لن يقدّروا أيضا خطورة العواقب الصحية .لم يكن هذا بالقرار السهل على أمّ مثلي تؤمن أن اتخاذ القرارات نيابة عن طفلها حرمان مبكر من تحمل المسؤولية ، تؤمن بأهمية تعزيز ثقافة الحوار داخل الأسرة وأن يكون الأطفال فاعلين في التعبير عن آرائهم  . رغم ذلك تبقى قدراتهم على اتخاذ قرارات على قدر  تجاربهم الحياتية المحدودة فكيف لهم أن يدركوا خطورة هذه الألعاب والأجهزة على أدمغتهم وحياتهم الاجتماعية !
الآن بعد مرور شهرين وأكثر من حياة أطفالي دون أجهزة وألعاب الكترونية ، أكثر ما يمكن ملاحظته هو عودتهم إلى حياتهم .. مطاردة الأخوة ، المشي ، الحبل ، الغميضة ، اللعب بالكرة ، القفز ، ألعاب التحدي ، اللعب مع الحيوانات ، الرسم والأشغال اليدوية . لم أخطط مسبقا لهذه البدائل ، لكن أدمغتهم الفارغة من التشويش قادتهم للعودة لهذه الحياة، طفولة ما قبل الطفرة التكنولوجية والعالم الرقمي ، طفولة معاميرندو ! 
اصدار معاميرندو جزء من سيرة ذاتية مشتركة للشاعر أحمد رضي مع أقرانه كشف أسرارها بعد مضي زمن ، اشتباكات وسرقات و مغامرات في ممرات قرية المعامير ، شوارعها ، سواحلها ، بحرها الذي لم يردم، وجه البحرين قبل أن يدفن .
ما بعد الأجهزة الذكية لأطفالي وجدت قراءتي لمعاميرندو مختلفة ، تلمست تلك الطفولة التي تغوص في مكامن عقل الطفل محاولة تحريكها وتهيئتها لتكون أرضاً خصبة للإبتكار . ابتكار الألعاب واختراعها من أدوات بسيطة ، حكايات العلب الفارغة في بيئة كل ما فيها يمكن أن يستعمل مرة أخرى بطريقة ما  ، إعطاء قيمة لكل شيء صغير وقديم وبال ، أغطية قناني البيبسي كانت كفيلة أن تغمر الصبيان بالسعادة بمجرد قلبها ،الغطاء الورقي للآيسكريم يفjي بالغرض للعب البوكر ! الأشياء الصغيرة البالية القديمة التي كان يجمعها طفل في جيبه " الخراويش" تعلـم الأطفال أن لكل شيء قيمة.
اليوم أرى كل الجهود التربوية التي تبذلها المؤسسات التعليمية لتحفيز الطفل على الابتكار وخلق أفكار جديدة وتطوير المناهج بطريقة تساعد على خلق جو دراسي محفز للتفكير بإبداع والتحرر من التفكير النمطي كل هذا لا يؤهله لدمج حواسه الداخلية والخارجية في عمليات التفكير الإبداعي التي كان يمارسها أطفال معاميرندو في بيئة خالية من المشتتات يقفز فيه الصغار من أعلى سطوح المنازل إلى كومة من الرمل ، أو يغامر فيها طفيليو الأعراس ممن لا يفوتوا حفلة خطوبة في القرية إلا وملأوا جيوبهم ببهجتها ، الأطفال الذين يخططون لمشاريع واستثمارات قادمة من تسفيط السمك أو حمل الأكياس في الأسواق ، الجلوس في أسطح البيوت والتأمل في الفضاء الشاسع ، التفكير في الحب والموت والجن ، البحث عن الله .. كيف يرانا ؟ كيف يحصي كل هذه الأفعال والأشياء !
كل تلك التجارب الحسية و الوجدانية العميقة لن تجدها اليوم بسهولة في عالم الأطفال الضيق بالجلوس في المنزل والتمتع بالأجهزة مع حماية زائدة تحرمهم من الخروج في الأماكن العامة أو طرقات قريبة . لعل أكثر ما يشدّك لطفل معاميرندو الفرصة للتأمل في كل التفاصيل حوله ، الطفل الذي يتأمّل حتى النقوش في السجادة مخترعا قصة بين الكائنات الغريبة التي تظهر بعد أن يدقق النظر " واصل التحديق بتلك الطريقة في السجادة سيظهر لك حينها وجه لم تكتشفه قبلا مختبئا في تلك التعرجات وقد تكتشف سرا قابعا في متاهتها وفي خطوطها شديدة الانحناء " .
آلاف الصور والأفكار التي تشاكس ذاكرة طفل بلا ملهيات الكترونية في حالة من الملل الخلّاق بلا مشتتات. أطفال معاميرندو هم أطفال قادرون على الاتصال بمدى وعيهم ، تقودهم لحظات التأمل تلك إلى اكتشاف حقيقة كينونتهم ، مشبعين بالحوارات الطويلة وسرد القصص الخيالية والمغامرات التي لا تخلو من الشقاوة ! لم يجد الكاتب هذا في طلبته اليوم بعد محاولة فاشلة منه في اتاحة الفرصة أمامهم للتسابق في سرد قصة فنتازية أو التفكير خارج صناديق الواقع . لم يجد بينهم طفل معاميرندو الذي عاش الحياة بكامل حواسه فلم يخزنها في الذاكرة وإنما في المخيلة .. ولن يجد ..
ما لم نهرب بأطفالنا اليوم من حدود الفضاء الالكتروني لفضاء الله الشاسع !



هناك 6 تعليقات:

  1. جميل استاذه وانا معك ما ذهبت اليه وكذلك من سبقنا من باحثين وعلماء و اتمنى ان يمارس الاباء والامهات سلطتهم المسلوبه وذلك بفرض ايام يمنع فيها الالعاب الالكترونيه و حتى تصل القناعة الى الاطفال بان العودة الى مشاغبات الطفولة اجمل لاحظات الحياة

    ردحذف
  2. موضوع رائع أستاذة انتصار وجرأة أروع. كما أعمار أطفالك الله يحفظهم؟

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا وسهلا بك .. أعمارهم ٧ و ١٠

      حذف
  3. شكرا لقراءتك عزيزي أبو أحمد بالفعل هناك سلطة مسلوبة وبإرادة الآباء

    ردحذف
  4. موضوع رائع، كون أمي لم تسمح لنا بامتلاك الهواتف قبل سن ١٥ سنة، استطيع أن أربط نفسي بشدة بأطفال معاميرندو�� .. مشاكسات ومغامرات ووو

    ردحذف
  5. https://www.vatrena.com/c/1888

    اكبر تجمع من شركات اجهزة-الالعاب الالكترونية تجدها على فاترينا دوت كوم دليل عام واكبر محرك بحث محلى فى مصر

    ردحذف