light

light

الاثنين، 9 أبريل 2018

الروايات ميدان خصب للقراءات النفسية ..


Image result for ‫حوام المحروس‬‎

 "حوّام" أدهشتني في تجسيد كل معايير اضطراب الشخصية الهستريونية Histrionic Personality Disorder


انتصار رضي . ديسمبر 2017

تحليل السلوك والعقل والتفكير والشخصية لكل من حولك  ، معرفة دوافع السلوك التي يحاول الآخر أيا كان أن يتفنن في اخفائها ، طرح وجمع معادلاتك النفسية لفهم سلوك الآخر والتبنؤ به وأخيرا إن أردت التحكم فيه. كل هذه المعارك لا تهدأ في عقلك إذا كنت اخصائيا نفسيا !
يحدث هذا أيضا إذا قرأت الروايات والسير،  تكون قراءتك النفسية سابقة لقراءتك الأدبية  والفنية وإن كانت دراسة الرواية دراسة نفسية أمرٌ لا يخلو من مشكلات، فقد تنقلك بعيدًا عن مناحي النظر الأخرى في العمل الأدبي ، إلا أنني ممن ينتصر إلى كون الأدب ميدانا خصبا للقراءات النفسية، وأن الصراع العنصر الأهم الذي يبنى عليه العمل الروائي لا يشتد داخليا وخارجيا إلا بالتركيز على البعد النفسي وهو محصلة البعدين الاجتماعي والجسمي على أية حال .
بعيدا عن كل المحاكمات الأدبية والأخلاقية التي أثيرت حول الرواية ، بحثت عن " حوّام " كثيرا ! لم أجدها في المكتبات ولا عند الأصدقاء ولا عند المؤلّف ، كنت مدفوعة بشغف كبير لقراءتها بعد أن قرأت الكثير مما أنتجه المحروس في السير والأعمال الروائية والحق يقال أن للمحروس في الوصف و تجويد اللغة وتجميلها من السحر والجمال بحيث أن كل ما يقوله يخلب الألباب  .
يخلق الكاتب في حوّام رغبة مستمرة لمعرفة ما سوف يحدث في رواية لا تتعدى صفحاتها 214 بحجم كف اليد . ينقلك فيها من مفاجأة لأخرى في سبر أغوار شخصياتها ، رواية ترفع لدى القارئ الرغبة في الترقب والانتظار .... والقلق أيضا من مريم.

يقول البعض بأن الرواية هي الشخصية ، وحوّام  هي مريم .
لن تخلو أي دراسة نفسية لرواية ما من البحث في الأنماط السيكولوجية أو السلوكية التي ينتج عنها الشعور بالضيق أو العجز ، أو ما يسمى في الدراسات النفسية بالاضطراب. وإن كانت النصوص لا تحيل إلا على النصوص لكني لا أخفي دهشتي من اتقان المحروس لتصوير نموذجا حيا لاضطراب الشخصية الهستريونية Histrionic Personality Disorder

( حدثتني جدتي مريم قالت : إذا كثر خروج المرأة في الحي ، وألفتت في مشيتها بين البيوت ، نعتوها بـ " حوّام ) .

بهذا الاختزال والتكثيف في الصفحة الأولى تلمست مظاهر الهستريونية في شخصية مريم أو " حوّام " الكنية التي أطلقها الكاتب في مزاوجة فريدة أبدعها بين سلوك الحمام والإنسان .كمهتمة شخصيا بنظرية التطور تأملت هذه المزاوجة في الرواية وأظنها تستحق أن يكتب عنها اليوم قراءة منفردة وسط جدل مستمر عن مدى تشابه أو اختلاف سلوك الانسان عن باقي الحيوانات !

كنا نسمع كثيرا أن للجدات كلام لا يشبه أي كلام، ربما كان ذلك الوصف عن " حوّام " يتناقلنه الجدات على سبيل الفكاهة أو يتراشقن به بين النساء داخل القرى ، ليحذرن من بعضهن البعض لكن تلك المعرفة القليلة التي تم اختصارها في كلمة أو كلمتين لتعريف حوّام لا تختلف عما جاء به الدليل التشخيصي في تعريف الشخصية الهسترونية .

( نمط ثابت من فرط الانفعالية وجذب الانتباه ) هذه مريم منذ اللحظة الأولى لزواجها بـ  عباس. نسيت طرق تثبيت المشمر على رأسها فيسقط في الدقيقة مرات . وكلما تحرك من فوق رأسها أو بان شيء من شعر رأسها أو كشف عن صدرها أومأ إليها عباس بعينين غاضبتين ...مريم التي تنتقي أزياءها ، حقيبة يدها ، حجابها ، مكياجها ".
 لا ترتاح الشخصيات الهيستريونية في المواقف التي لا تكون فيها محور اهتمام الجميع كمريم التي تلفت ولا تلتفت حتى صارت تغادر الجلسات العائلية فلا تغادرها أعين الرجال وزكريا أولهم  . كن نسوة الحي يستنكرن كشفها لجزء من صدرها وساقيها المخضبتين بالحناء في صباح عرسها . تختال في مشيتها ترتدي ما يجعل جسدها أقسام وجهات منفصلة ومتصلة . حتى نسي زكريا ذات يوم أنه يحمل طفلته فاتن بين يديه وهي تعبر أمامه
 " فتنتني عن فاتن .. شغلني حمل عن حمل " .
هكذا تتفنن الشخصية الهيستريونية باستخدام جسدها في لفت الانتباه إليها . وتتسم غالبا في علاقتها مع الآخرين بسلوك جنسي إغوائي مثير ليس من أجل رجل واحد ولا تجربة حب واحدة ! تغامر في الحب ، تتفنن في الشقاوة مع حبيبها ، تبعثر حواسها وروحها فيه ، تهندس جسدها له ، حتى إذا جعلت منه جحيما بحثت لها عن آخر. عمر العلاقات لحوّام بعمر الدهشة الأولى .. وأحيانا بعمر القبلة الأولى كحمامة زكريا التي قالت عنها مريم :
 " لا تكتفي برجل واحد ولا تستطيع فعل ذلك حتى لو كان الرجل يعبدها . تنتقل بين ذكور الحمام ونراها تضرب رقابهم بمنقارها . الضرب عند الحمام تقبيل . تعود لذكرها محبطة إن لم تصادف من يبادلها التقبيل وفي اليوم الثاني تعيد الكرة " ...
 كانت مريم تتحدّث عن حوّام ، عنها ، عن النساء الحمام كما قال زكريا المولع بحماماته أكثر من ولعه بلقاء عروسه في ليلة عرسها. لن تجد توصيفا للشخصية الهيستريونية - الاضطراب الأكثر شيوعا عند النساء - أكثر دقة من الوصف الذي جاء على لسان مريم عن الحمامة التي تشبه المرأة :
(عندما يغفل ذكرها أو يطيل الجلوس على البيض قد تترك ذكرها إلى الأبد وتترك بيضها أيضا إذا صادفت ذكرا آخر يفتنها . أحيانا الحمامة يصير خاطرها في ذكر آخر فتترك ذكرها وتطير دون علمه إلى سطح آخر وما أن تلاقي ذكرا حتى تقترب منه جدا وتقبله وتمكنه من نفسها ، تعود إلى ذكرها الأول منتشية وبعد ساعة أو أقل تطير لذلك الذكر ، تفعل هذا كل يوم مرات فإذا لم تجده طارت تبحث عن ذكر آخر ... تستمتع إلى آخر ريشة ) .
لاتعود حوّام للرجل مرتين كما مريم التي تستلذ بجمع عدد من ضحاياها في الحب . تتركهم يصارعون ذكرى غواياتها وشهوتها ، وتظهر لهم تحولا سريعا في التعبير عن العواطف من الحميمية إلى السطحية . هكذا تركت زكريا  ، حمامة مكسورة الجناح يهيم في أحراش النخيل والبحر وهي تستلذ بموسيقى عارف والرقص أمامه ! هذه مريم منذ صباها منذ فيصل في المرحلة الابتدائية ، مرورا بمعلم الخط ، الرسام الوسيم ، خال صديقتها ، شباب الجامعة ، عباس ، جاسم ، زكريا ، عارف ..... حيث تعمد الشخصية الهيستريونية بتحويل كل علاقة عابرة إلى حميمية أكثر مما هي عليه في الواقع فلدى هذه الشخصيات قابلية للتأثر بسهولة عند استمالة الآخرين لهم .ثم سرعان ما تذهب أو " تبنّد " كحمامة طارت في الأفق وتوارت فيقال لها " بنّدت ".
تتفنن مريم في التعبير عن ذاتها وجسدها أمام عشاقها ، تمارس انتقاما لاواعيا من عباس الذي يسافر عنها ليعود برائحة خيانة جديدة. تحدثت نظرية التحليل النفسي لفرويد عن هذه الحالة بالتنفيس المشوّه لتحقيق نوع من التوازن وخفض القلق المرتبط بصراع الرغبات . إذ تسعى هذه المرأة قدر ما تستطيع  إلى تحويل الخبرات والرغبات المؤلمة إلى خبرات لا شعورية وضمان بقاء هذه الخبرات والرغبات بعيدة عن حيز الوعي . وهذا ما كانت تعنيه مريم  حين وضعت وجه زكريا بين يديها وحذرته بعد أن حصل بينهما ما حصل :
( اسمع .. إياك أن تشعر بالذنب ) . فهذا الشعور كفيل بنقلها لحيز الوعي الذي تجاهد الشخصيات الهيستريونية أن تحارب الولوج فيه .
وإن كانت أكثر الأسباب شيوعا لاضطراب الهيستريونية عند النساء هو الاستعداد الوراثي إذ يلاحظ توفر شخصية مماثلة في أحد الأبوين أو الأقارب . إلا أن العوامل النفسية والاجتماعية تلعب الدور الأبرز في تمظهره فالإحباط وخيبة الأمل في تحقيق هدف ما أو الفشل في الحب والزواج والحرمان يلعب الدور الأبرز في تضاعف أعراضه فكيف لفتنة كمريم التي قال عنها زكريا :
" عيون الحمام . وجه الصباح . هواء البحر في الليل عندما يصخ الناس ويغيبون . حبة القلب زهرة الرمان ، رائحة البستان . تجلس جوارها فلا تشعر بعطش ولا جوع "
كيف لكل هذا أن يحصره ويحكره رجل كـ عباس في غرفة مقفلة على سطح بيت واحد !
صراع الرغبات والغرائز مع الواقع والقيم في هذه الرواية جسّد صورة مماثلة لما تواجهه المرأة الهيستريونية في علاقاتها العابرة وهي تنتقل بينها من الحميمية إلى السطحية ! هل كان " التوزيع كله غلط " كما تساءل زكريا متعجبا لماذا يزاوج الله بين اثنين ليس بينهما مودة ؟
عند مريم سيبقى التوزيع دائما غلط ... مع امرأة لا تبات ليلة واحدة دون حب ولا تعود للرجل مرتين ...

هذه حوّام التي لم تتوقف حتى الآن ....



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق