light

light

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015

مدريدي أو برشلوني !



بقلم : انتصار رضي / أغسطس 2015
ذهبت مع أبنائي للتسوق و شراء احتياجاتهم المدرسية لبدء العام الدراسي الجديد هناك فاجأني طفلي محمد 4 سنوات حينما حملت حقيبة ريال مدريد وقلت له مبتسمة هل تريد هذه الحقيبة ؟ لعلمي بقناعته بأنه من مشجعي هذا الفريق همس في أذني متسائلا ببراءة وخوف : كيف أشتري حقيبة ريال مدريد وأصدقائي  في المدرسة يشجعون برشلونه ؟ لم يكن هذا الموقف الأول الذي أواجهه مع أبنائي في قلقهم من التعبير عن خياراتهم ، فقد سبق أن جاء طفلي علي يوما باكيا في الصف الأول بسبب سخرية زملائه منه حين تعرض فريق برشلونه لخسارة فادحة ! وما يتبع ذلك من استهزاء واستقواء على من يختلف عن المجموعة ! وهو ما دفعني للبحث كثيرا في كيفية علاج هذه المشكلة .
لازلت أذكر أهم بروتوكولات التنمّر المدرسي عندما كنت في الصف الأول الابتدائي ، والذي يفضي إلى مضايقة مجموعة من الطلاب معنويا بالإغاظة والتهكّم وإلقاء الألقاب على سبيل الإستهزاء، عبر التحشيد الذي يقوم به طلبة فرقة معينة في مسيرات طفولية تندد بفرق أخرى من الطلاب وينادون فيها بشعارات تستهزئ بفصول أخرى ليس لسبب يذكر سوى أن هؤلاء من فرقة " أ " وأولئك من فرقة " ب " !!!  . الآن أجد تلك الشعارات مضحكة جدا ، لكنها كانت مرعبة إلى حد ما بالنسبة لي في طفولتي ، باعتباري من فئة المسالمات وقتئذ ممن لا ناقة لهن ولا جمل . و عادة ما كان يقوم بترديد الشعار "عنتر القاووش" الذي يحمل على أكتاف طلاب لا يعرفون معنى هذا الشعار ولماذا هم يرددونه ولأية غاية ، الشيء الوحيد المعلوم أننا نختلف في حروف فصولنا أ ، ب ، جـ .  طبعا هذا أحد أساليب التنمّر التي كانت تتوارث عبر الأجيال من عام لآخر قبيل أن تبدأ المدارس بالقضاء على هذه الظاهرة في مدارس البنين والبنات ، أو ربما الأصح تتبدّل مظاهر التنمّر عبر الزمن بما يتلاءم مع عصر الديجيتل  من خلال رسائل قدح وذم عبر البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي !
مازلت مشكلة التنمّر أكبر  مشكلة تواجه المجتمع المدرسي في جميع المراحل على اختلاف البيئات الثقافية ففي أحدث احصائيات أجرتها وزارة العدل، قسم الصحة و خدمات الانسان الأمريكي، مركز دراسات البلطجة الالكترونية لعامي  2011 و 2012 أن نسبة الطلبة اللي بلغوا أنهم تعرضوا ا لبلطجة في المدارس: 37% ولعل هذا الرقم يتضاعف مع الحالات التي لا تجرؤ على التبليغ .
بغض النظر عن الممارسات التي تعتبر تنمرا أو مدى شيوع التنمر وما هي أضراره الجسدية والنفسية ، أحببت أن ألقي الضوء على زاوية هامة جدا وهي كيف نربي طفلا لا يكون ضحية من ضحايا التنمّر !
من خلال خبرتي في العمل المدرسي فإن أغلب حالات التنمر وسلوك البلطجة في المدارس يبدأ من تأثير الأقران والمرء على دين خليله . ومن خلال دراسة الحالة للكثير من الطلاب الذين يتنمرون  يتبين أنهم في الغالب ممن كانوا ضحايا تنمر من جهة أو ممن يتنمرون خوفا من الإقصاء من جماعات الأصدقاء من جهة أخرى ! وفي الحالتين فإن العامل المشترك هو ضعف توكيد الذات ! وتوكيد الذات باختصار شديد هو : أن تحترم ذاتك ، وتعبر عن نفسك وأفكارك ومشاعرك ومعتقداتك بطريقة مناسبة دون قلق .
مهارات توكيد الذات من الضرورات في التربية فهي تعزز عند الأبناء قيمتهم الذاتية وتساعدهم في التعامل مع الضغوطات والاستقواء من قبل المتنمّرين ، وتلعب هذه المهارات دورا هاما في تقدير الأفراد لذواتهم وإعطائهم الحق في التعبير عن خياراتهم وتوجهاتهم واختلافاتهم بحرية مطلقة.
أحد أهم أسباب ضعف توكيد الذات هو الخلط بين توكيد الذات والسلوك السلبي ، ففي ثقافتنا العربية لازال الكثير من مهارات توكيد الذات يعنون بالغرور أو التعالي أو حب الذات ، وهذه الثقافة السلبية تفضي بلاشك  إلى عجز الطلاب عن وضع حدود بينهم وبين الآخرين وقد يتمثل هذا بصورة بارزة في خوفهم من قول "لا" للآخرين ولمطالبهم المستمرة وغير المبررة التي تؤدي بالنتيجة لجعل الطالب ضحية للاستقواء .
ضعف توكيد الذات  يبدأ من أسلوب الرعاية الوالدية ، كنت قبل 12 عاما أدرس حالة طفل لدي في الصف الأول يتعرض للاستقواء بشكل يومي من قبل زملائه الطلبة و رغم كل جهودي في علاج الحالة إلا أن معاناته ظلت قائمة . وكانت تلك الاعتداءات المتكررة تؤدي به إلى الغياب المتكرر دون عذر ، المعاناة في صمت ، التأخر الدراسي ، تأجيل الأعمال ونسيانها .. وهي كلها طرق تعبر عن محاولات العقل الباطن للإحتجاج على الوضع القائم ولكنها تبقى طرق غير ناضجة ..غادرت المدرسة لتحضير الدكتوراه وحين عدت إليها كان هذا الطالب في المرحلة الإعدادية ، وكان يعاني حينها من إجبار والديه له في اختيار مساقات التخصص الأكاديمي التي تخدم تخصصه الجامعي الذي أختاره له والداه خلافا لرغبته الشخصية ! أدركت حينها أن الإستقواء يبدأ من البيت .فإن كنا بشكل مستمر نرفض طلبات وخيارات أبنائنا فسنحكم عليهم طوال حياتهم البقاء رهنا لأولويات الآخرين بدلاً من احتياجاتهم وهذا سيجعلهم لقمة سائغة للمتنمّرين وضحية أولى لكل أساليب الاستقواء.
طبعا يتبع هذا الخلط شيوع الكثير من الاعتقادات الخاطئة التي بحاجة إلى تصحيح والتي تدفع بالإنسان كثيرا للفشل في تقبل حقوقه المشروعة . ومن تلك الحقوق المشروعة على سبيل المثال لا الحصر حقك في أن تعتبر نفسك الأول أحيانا ، حقك في أن تغير مسار تفكيرك عمليا ، حقك في أن تقاطع الآخرين من أجل الاستيضاح والفهم ، حقك في أن تخطئ في أن تشعر بالألم وتعبر عن هذا الألم ، حقك في أن تتجاهل نصيحة الآخرين ولا تأخذ بها ، حقك في أن تقول لا دون حاجة إلى تبرير تلك الـ لا ... إلخ .
أيضا أحد أهم أسباب ضعف توكيد الذات  التي تساهم في جعل الطالب ضحية للاستقواء هو القلق المفرط على مشاعر الآخرين ويتبع هذا الإكثار من الموافقة الظاهرية لقرارات الآخرين : مثل نعم، حاضر، أبشر.... الخ وتقديم الطالب شعور الآخرين على شعوره وحقوقه وكثرة الاعتذار للآخرين دون حاجة للإعتذار ومن ثم ضعف القدرة على التعبير عن المشاعر والرغبات والانفعالات وضعف القدرة على إظهار وجهة نظر تخالف أراء الآخرين ورغباتهم وعدم الحزم في اتخاذ القرارات والمضي فيها وتحمل تبعاتها وضعف التواصل البصري بدرجة كبيرة .
بالإضافة لتلك الأسباب فسلوك الإنقاذ السلبي الذي ينتشر بكثرة في الأوساط المدرسية يساهم في ضعف توكيد الذات ويهيئ الفرص للتنمّر ، وأعني به مساعدة الآخر الذي هو بغنى عن المساعدة وأن يضحي الفرد بحاجاته لصالح شخص آخر يستطيع أن يساعد نفسه ويشبع حاجاته . كما يفعل بعض الطلاب بتوزيع مصروفهم اليومي أو أدواتهم المدرسية لزملائهم الطلبة دون حاجة تذكر . ينتج هذا السلوك من عدم ثقة الفرد بنفسه، وشعوره بأنه اقل أهمية من الآخرين ، وهذا يقلل من إيمانه بقدراته وامكاناته، وأن تلك المساعدات تملأ بصورة لا شعورية نقص الثقة الذي يعانيه ، لكنه من جانب آخر يفتح أبواب الاستقواء عليه والتضحية به في حسابات المتنمّرين .
بلاشك فإن التنمّر قضية شائكة وأسبابها كثيرة قد يكون توكيد الذات أحد تلك الأسباب . أيا تعددت تلك الأسباب وتفرعت فهي تبدأ من أحضاننا . فبقدر ما نمنح أبناءنا في الأسرة من الحب والثقة ونساعدهم في تكوين مفهوم ذات إيجابي ومستويات عالية من تقدير الذات لديهم بقدر ما نجعلهم في مأمن من شراك التنمّر .

 نحن الآباء والأمهات من نكتب قدر أبنائنا في أن يكونوا من المستضعفين في زاوية ما من المدرسة مسلوبي المصروف اليومي و وجبة الفسحة والرأي والحق في الدفاع عن النفس .... أو أن يعبّروا عن أنفسهم ومشاعرهم وأفكارهم بحرية تامة ولا يخشون في تشجيع فريقهم الرياضي لومة لائم .. برشلونيين كانوا أم مدريديين.. !

الاثنين، 13 يوليو 2015

تجربتي في التطهير التكنولوجي


بقلم : انتصار رضي / يوليو 2015

قرأت مؤخرا كتاب The Winter of our Disconnect لمؤلفته " سوزان ماوشات " حول قصتها كأم لمراهقات كن يعانين من "متلازمة مسك الهواتف باليد" منذ الصباح ودسها تحت الوسائد قبل النوم  ، قبل أن تعمل سوزان على مساعدتهم في تغيير نمط حياتهم ، بإطفاء أجهزتهم الرقمية لستة أشهر متتالية !!
كانت سوزان تستيقظ الساعة الثانية صباحا ، لتجد أصغر بناتها ملتصقة بالماك بوك الخاص بها وهي لا تزال مرتدية زيها المدرسي ! بحثت سوزان عن السبب الذي يدفع أبناءها وهم يلعبون ألعاب في الـ PC ألا يسمعون نداءاتها المتكررة لهم اضافة لتأثير ذلك على أوقاتهم العائلية الحميمية كأوقات الوجبات اليومية و التي باتت الأجهزة تشاركهم فيها .
 وفي لحظة حاسمة قررت سوزان مع أبنائها أن يوقفوا كل تلك الأسلحة الالكترونية لمدة ستة أشهر متتالية وينفصلوا عن كل المشتتات في العالم الرقمي ويلاحظوا التغييرات الجذرية في أنماط النوم ، مستويات الطاقة ، المزاج .
تقول سوزان ساعدتهم الستة أشهر تلك من دون شاشات ، على التواصل مرة أخرى مع الحياة نفسها ، وأصبحت الروابط بينهن أقوى كعائلة ودفعتهن للأمام ولأعلى كأفراد منتجين.
تقول : " ماوشات " في مقدمة إحدى اليوميات في اليوم الحادي عشر إنها الحادية عشرة مساء  تتحدث الفتيات ويقرأن على ضوء الشموع في غرفة نظيفة ، مليئة بالهواء ، وغير ملتصقات بالفيس بوك ، متناسيات كل ما يحدث حولهن .
وتتحدث أيضا حول أمسية قضوها في مشاهدة الصور القديمة المطبوعة وليست الاكترونية مما سمح لهن بالجلوس جنبا إلى جنب حيث يمررن الصور لبعضهن وقد صنع هذا طاقة مختلفة على حد قولها .
لوهلة حين قرأت هذا الكتاب ارتفع مستوى الدوبامين لدي مما يساعد على اتخاذ قرارات متسرعة وباندفاعية شديدة ، وقررت أن أعيش تجربة سوزان تلك، وتجربة الحياة بلا قنوات تواصل اجتماعي لمدة شهر .
 كنت أعتقد أن بإمكاني اتخاذ قراري هذا بسهولة أكثر من سوزان التي وجدت عقول مراهقاتها في بداية تلك التجربة  مقيدة بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا ، لكني وللأسف وجدت أنني كنت ربما أسوء حظّا حين أحسست وكأني في صناديق مغلقة و بأبواب دخول فقط !! وأن هناك مردة يقفون على تلك الأبواب يرتدون زي العصر العثماني ويخفون حذائي مبتسمين يرددون :  دخول الانترنيت مش زي خروجه !
هل حقا نستطيع العيش بدون وسائل التواصل تلك ؟
كان ذلك السؤال يثير عندي اشتياق الباحث إلى النتيجة التي تمحو جهله في موضوع ما بالمعرفة  ولكن ليس أَيُّ معرفة ، وإنما المعرفة العلمية القائمة على المنهج السليم، والمستندة إلى العقل والمنطق والتجربة والبرهان .
ولأني أدّعي احترافيتي في مهارات الكورت ومهارات التفكير العليا فقد ألزمت نفسي بتحديد أهداف قصيرة المدى واستراتيجية لكل خطوة أخطوها . 
كانت القراءة الفاحصة لا المطالعة والتأليف ، على رأس أهدافي في تجربة "التطهير التكنولوجي" كما تسميه فرانسيس بووث في كتابها الرائع الذي أوصي بقراءته : (مصيدة التشتت وكيف تركز في فوضى العالم الرقمي) .
تذكرت حينها الشاعر والمترجم السعودي الشاب أحمد العلي الذي أصدر 12 كتابا ولم يتجاوز عمره 29 سنة !! وذلك بعد أن أغلق صفحاته الالكترونية ليتفرغ للتأليف والترجمة من نيويورك التي كان يحضّر فيها دراساته العليا .
 ولأن ذلك الفراغ الكبير الذي سببه غياب تلك القنوات في حياتي دفعني لمضاعفة حصتي اليومية في القراءة ، وجدت أنه باستطاعتي أن أقرأ ما لايقل عن مائة صفحة بشكل يومي دون توقف أو تشتت !
 التشتت الذي أعنيه والذي أشارت إليه "فرانسيس بووث" في كتابها مصيدة التشتت هو تأثير برامج التواصل والتنبيهات المتتالية في انتقال ما نقرأه من ذاكرتنا قصيرة المدى إلى ذاكرتنا طويلة المدى وتسهب بووث في شرح ذلك شرحا علميا مفصلا لا مجال لذكره في هذه العجالة .
لم يكن الوقت هو عنصر التحدي الوحيد في كمّية وجودة ما نقرأ ، بل ثقافة البرودكاست التي تشبع رغبتنا في القراءة كانت العامل الأخطر الذي توصلت إلى تأثيره السلبي في قراءتنا. فعلى مدار اليوم تنهال علينا الرسائل بمعنى أو بلا معنى ، ورغم ايماني بألا افراط ولا تفريط ، والبحث عن الفائدة وراء كل شيء ، إلا أن ما يحدث في تلك القنوات فاق الإفراط وتعدى حدود الاستفادة من مثل هذه البرامج ! وللأسف فإن الكثير من أوقاتنا تهدر في قراءة الرسائل الدينية التي تحوي أساليب غبية في طلب إعادة ارسالها ، والرسائل الاخبارية التي لا يعرف مصدرها ، والنكت والتعليقات المضحكة السخيفة ، ورسائل تنقل قصصا غرائبية لا يصدقها عاقل،  والأسوء من كل ذلك رسائل ينقلها المرسل وهو لا يفقه منها شيئا أو دون أن يفكر في أن يستفيد من قراءتها !
الهدف الثاني بعد القراءة هو التأمل في الذات .. فسابقا كنا نجد فرصة سانحة للتأمل في أنفسنا وأفكارنا قبل نشرها لمحدودية وصعوبة التواصل الاجتماعي مع جماعات مختلفة الأجناس والايديولوجيات ، لكن مع عصر الديجيتال باتت أول فكرة تلقائية تعبر أذهاننا تجد طريقها سريعا للنشر في صفحات الفيس بوك أو تغريدات التويتر !
 هل تساءلنا مرة كم من الوقت استغرقنا في التفكير في أفكارنا قبل نشرها الكترونيا ؟
 هذه العزلة تسمح لك بفرصة للتأمل بعد تعدد قراءاتك طبعا ، إضافة إلى أجواء التفكير البعيدة عن التوتر والسانحة للمزيد من الابداع وبالطبع هذا ما أثبتته الكثير من الأبحاث العلمية التي أجريت على أدمغة البشر وهم بمعزل عن التكنولوجيا.  وأبرزها تجربة مجموعة من علماء الأعصاب في عام 2010 والتي قادها "ستراير" الأستاذ في جامعة يوتا والذي يعتقد أن الكثير من الانتباه الرقمي يشعر الأشخاص بأنهم معتلّون نفسيا. وليعرف مدى صحة ذلك اصطحب معه ولمدة أربعة أيام مجموعة من علماء الأعصاب بدون هواتفهم المحمولة والانترنيت وبمرور الأيام اكتشفوا قدرتهم على التفكير في الكثير من الأفكار الخلاقة والابداعية والمزيد من الانتاجية وهم بين أحضان الطبيعة !
الهدف الثالث كان ينصب على تحديد إطار العلاقات فوجودك على قنوات التواصل الاجتماعي يعني للآخرين أنك متاحا في كل الأوقات وأنك في متناول الجميع . أعتقد أن هذا هو الهدف الأصعب فللوهلة الأولى ستجد هذا الاطار الواسع من العلاقات يصرّ أن يبقيك وسطه دون تنازل ، والسبب الأول لمقاومتهم لرغبتك هو نقص ثقة الأفراد بإمكانية مواجهتك بمفردك لجبروت هذا العالم الرقمي الشاسع !! تذكرت حينها تجربتي في إرشاد المدمنين في وحدة المؤيد بمستشفى الطب النفسي يوم أن قال لي أحد المدمنين المشكلة الأخطر التي تواجهنا في التعافي من إدمان المخدرات هي حين يوهمنا من معنا من المدمنين بأننا فقدنا خطّ الرجعة !!.. لهذا أنصحكم بخوض هذه التجربة أعني التطهير التكنولوجي بصمت ودون مناقشة مسبقة كما كل القرارات التي تحقق لك ذاتك والتي طالما كررت في أكثر من دورة و ورشة أنك أيها الانسان الشخص الوحيدة الذي يستطيع أن يرى رؤيته لنفسه !
إطار العلاقات الالكترونية والذي يجعلك تنجرف دون إرادة منك للصداقات من خلف الشاشات على حساب علاقاتك في العالم الواقعي هو أول بؤرة ستعيد التأمل فيها في تجربة التطهير التكنولوجي ، وقد كشفت إحدى الدراسات أن 50% من الشعب الأمريكي يفضلون التواصل الرقمي على الشخصي . وقد اندهشت حين عبرت لي احدى طالباتي المراهقات يوما ما أنها منذ 3 أعوام متتالية لم تتواصل مع والدها إلا عبر الواتس اب نظرا لظروف عمله وتفضيله لهذه الوسيلة في التواصل !!
الهدف الأخير والأهم هم أطفالي الذين أحببت أن أقضي معهم عطلة الصيف بعد عام دراسي مثقل بالإنجازات . ولعل ما دفعني لذلك هو نتائج احدى الفعاليات التي نظمها قسم الإرشاد النفسي في مدرستنا لؤلؤة الخليج العربي تحت مسمى الحوار بين الأجيال باستضافة مجموعة من الأطفال مع آبائهم في حوار شفاف حول تأثيرات التكنولوجيا شكى فيه الكثير الكثير من الأطفال أمام أمهاتهم وآبائهم بجرأة ودون خجل من انشغال آبائهم بالهواتف طيلة حياتهم على حساب أوقات اللعب معهم ... قد لا تنتبه لهذا إلا حين يبدأ أطفالك يقولون لك بعد أن تعبوا من مناداتك وأنت تجيبهم بـ : إم إم إم فيعلوا صراخهم اسمعني / اسمعيني !
قد تحرمك هذه التجربة من الكثير أيضا ، فرغم متابعتي أثناء تلك العزلة للصحف إلا أن الكثيرمن الأخبار العاجلة فاتتني معرفتها في أوانها لكن تلك لم تكن نهاية العالم ، فأنا لست محور هذا العالم الرقمي الذي يستمر بي وبدوني !!.. وهي الحقيقة التي أدركتها بعد أن تأملت في حياتنا قبل قنوات التواصل الاجتماعي كيف كانت نابضة ، وكيف كان باستطاعتي في عزلتي توفير البدائل لمعرفة أخبار عائلتي الممتدة .
 هذه الفرصة للتأمل قد نحتاجها لمعرفة كيف نسيطر على التكنولوجيا عوضا عن أن نجد أنفسنا كالخراف لها تتحكم في نومنا وتفكيرنا وتحديد أولوياتنا وعلاقاتنا ... وتسجننا في غرف الحياة البائسة التي يعرّفها "ويليام هنري دافيس" بتلك الحياة المليئة بالاهتمامات ، حيث لا يتوافر لنا الوقت للوقوف والتأمل .. !

الاثنين، 8 يونيو 2015

المخوضر.. و واقعية العالم الافتراضي

بقلم : انتصار رضي / يونيو 2015

The New Digital Age كتاب جديد لمؤلفه Eric Schmidt الرئيس التنفيذي السابق لشركة Google  يتحدث في كتابه هذا عن عصر الديجيتال وعن التشكيلة الجديدة لحياتنا وحياة أطفالنا في هذا العصر ، ويستشرف المستقبل فيه.  كما ويتحدث عن عجلة الحياة المسرعة التي تتغير وتتبدل دون توقف ، وتتسع فيها منظومة العلاقات وتعبر الحدود الجغرافية ، وتتجاوز القارات بشكل لافت ومذهل ، والكثير من ارهاصات عصر الديجيتال على انسان اليوم .
أبحاث عصر الديجيتال وارهاصاته ستحتل الصدارة لرسم صورة مستقبل العالم الرقمي والذي ستلعب التكنولوجيا فيه دور الأسلحة التقليدية منها والذكية ويبدو هذا جليا من إنفاق الدول العظمى المبالغ الطائلة في عالم التجسس الرقمي وإنشاء شبكات خاصة بها تتحكم بمراقبة النشاطات فيها .ولا ننكر نحن كيف ساهم هذا العالم الافتراضي بتغيير الكثير من تفاصيل يومياتنا وطباعنا ومناسباتنا وذكرياتنا .. عاداتنا وتقاليدنا .. حياتنا وموتنا .
فحتى مسألة الموت باتت تسير في خطين متوازيين في عالم التفاعل الرقمي والواقعي ، إن لم يكن التفاعل في العالم الافتراضي بتذويبه للحدود الجغرافية أعلى صوتا من نعي الأصدقاء في تجمعات العزاء  ، مما يدفعنا للتساؤل عن واقعية العالم الافتراضي وافتراض العالم الواقعي !
إذ لم يعد العالم الافتراضي هو ذلك العالم المحدود بأسلاك الشبكة العنكبوتية أو نظام تشغيل الحاسوب أو التلفاز و وسائل الإعلام .. إنه عصر الديجيتال الذي يتعدى كونه بعض التطبيقات أو الآليات بل أكبر بكثير من ذلك فهو إن لم يكن الحقيقة فقد كان انعكاسها ! كحقيقة " المخوضر" أو " أبي مقداد " كما يلقبّه متابعوه .
محمد المخوضر الشاب ذو السبعة والعشرين ربيعا والذي رحل إثر حادث سير أليم ومفجع أودى بحياته فأشعل لوحات المفاتيح وقنوات التواصل الاجتماعي تغريدا ونشرا على امتداد العالم الافتراضي طولا وعرضا.
" أبو مقداد " كما يكنّى ، شاعر مناسبات من الدرجة الأولى ، شعر المناسبات الذي يعدّ من " أعظم أنواع الشّعر " كما يقول الشاعر الألماني غوته . فلا تكاد تمرّ مناسبة دينية أو وطنية أو قومية إلا وقد ترك المخوضر له قصيدة ، إذ يعتبِر شعره رسالة ، وقصيدته تسجيل موقف ، وكلمته  مسئولية  ويعبر عن هذا في إحدى تغريداته  بقوله " الحكمة هي وضع الشيء في مكانه ومن أكبر أمثلتها وضع الكلمة في موقعها الزمكاني " .
وليس بالشّعر وحده عبّر أبو مقداد عن مسئوليته اتجاه دينه و وطنه ومجتمعه ، فلجانب نتاجه الأدبي يقوم المخوضر بتدوين مقالاته ويومياته وخواطره وتغريده المسترسل عن أفكاره التي يتشارك فيها مع متابعيه معتبرا تلك التطبيقات وسيلة اتصال شعبية  وجماهيرية مؤثرة على الرأي العام.
رحيل المخوضر أكد لجميع أهله ومحبيه  في العالم الواقعي أن البكاء من خلف الشاشات لمتابعين ما عرفوا من أبي مقداد إلا قلمه لم يكن أخف وطأة ممن تقاسم معه الملح والزاد . فللوهلة الأولى التي نعت فيها قريته ابنها البار على صفحات التواصل الاجتماعي ، شغلت صور وأشعار وتغريدات الفقيد كل الحسابات الشخصية ليس في حدود دائرته الجغرافية فحسب بل وأبعد من ذلك بكثير . يعلق والده الحاج عبدالنبي المخوضر على ذلك قائلا : "كنت أعرف أنه اجتماعي ويعرف الكثير ولكن لم أكن أتوقع أنه محبوب ومعروف لهذه الدرجة !" في حين بادرت احدى الأخوات اللبنانيات بالتعليق على احدى المنشورات في الفيس بوك متسائلة : هل هذا الراحل عالم عظيم لديكم ؟ مستفسرة عن سبب حجم التعاطف والألم الكبير الذي انتشر في كل الصفحات الالكترونية لنساء ورجال صغار وكبار عبّروا عن فقدهم لهذا الشاب صاحب الرسالة والموقف .
وثّق أبو مقداد الكثير من تفاصيل حياته وأفكاره عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، لحظات مناصرته للقضية الفلسطينية أو مبادلته التهاني مع مناسبات أصدقائه أو تعبيره عن حبه وشغفه بطفلته الغدير التي لم يمهله القدر ليعيش تفاصيل طفولتها. هذه المنشورات والتغريدات والصور ستكون كفيلة أن تخلّد ذكراه لردح من الزمن عن طريق برامج النشر التلقائي التي تستمر بالتغريد بعد الموت. كما قام متابعوه في حيزه الالكتروني باسترجاع تغريداته وصوره التي تجمعهم بها ، وربما هذا ما لم يستطع فعله من لم يخرج من دائرة حيزه الواقعي للعالم الافتراضي !
كما أن تركته الالكترونيه مهّدت الدرب لمحبيه ومتابعيه أن يجمعوا أرشيفه تمهيدا لاصدار سلسلة من المطبوعات باسمه تتضمن أشعاره وتغريداته ومقالاته ولو لم يكن المخوضر قد دأب على مشاركة الناس هذا النتاج الأدبي والفكري لربّما كانت اجراءات هذا المشروع اليوم أصعب من تنفيذه !
" لم أعرف من هو هذا الرجل لكني بكيته من كلماته وأشعاره " عبارة رددها الكثير من الفيسبوكيين والمغردين على هاشتاقات كثيرة انطلقت باسم أبي مقداد وبعبارات توديعه لمثواه الأخير .. في حين انشغل من عرف أبي مقداد افتراضيا حتى هذه اللحظة بإعادة نشر موقفه ورسالته في الفضاء الالكتروني الشاسع الذي طالما راهن الفقيد عليه !
" كان ولدي وأخي وصديقي بل وأستاذي الذي أتعلّم منه ، لست حزينا لموته بل لعدم تمكني من محادثته " بهذه الكلمات عبّر فيها والد المخوضر  الذي اعتصر ألما لفقد ابنه ويقول " ابني رفع رأسي في حياته بمواقفه النبيله وبعد مماته زادني رفعة وشرفا بحضوره الكبير " .

أبو مقداد نبيّ الحضور الجميل في العالمين الواقعي والافتراضي الذي أثبت برحيله أن الواقع الافتراضي ايضا انتصر في طمس الحد الفاصل بين الحياة والموت ، وظل صدى تغريدته يتجاوز الحدود الجغرافية  : " الموت ليس نهاية والموت ليس هزيمة لكن بإمكان أعمالك أن تنتصر لك بعد الموت وللأبد "


الأحد، 17 مايو 2015

فاقد الشيء .. يعطيه


لروح والدي التي غادرتنا ولم تغادر ..
بقلم : انتصار رضي / 17 مايو 2015

فاقد الشيء لا يعطيه ... من المقولات الشهيرة التي توارثناها عبر أجيال طويلة و شبّ عليها الصغير وهرم عليها الكبير. وظلّت قاعدة في الكثير من جوانب الحياة ففاقد الحنان لايعطيه ، وفاقد الاهتمام لايهتم ، و فاقد السعادة لايمكنه أن يمنح السعادة لأحد ،، الخ. كانت هذه المقولة ولا زالت مسمار جحا في كثير من الأحيان يبرر القائلون بها عجزهم عن التغيير ، ويعلقون عليها الكثير من أخطائهم وتقصيرهم في بعض واجباتهم الملقاة على عاتقهم إزاء بعض المكانات الاجتماعية التي يشغلونها .
ولعل أكثر تلك الجوانب التي تم تطبيق هذه المقولة فيها هي الجوانب التربوية ، فعلم التربية الذي ظلّ على مرّ العصور يؤكد أن الأسرة هي أهم وحدة اجتماعية تكوّن شخصية الطفل الاجتماعية والثقافية وهي أهم مؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وهي كوحدة حيّة ديناميكية تنشئ الطفل تنشئة اجتماعية و لا يتحقق فيها هذا الهدف إلا من خلال التفاعل العائلي الذي يحدث بين أفرادها . بالتالي فمن البديهي أن الأطفال الذين يكبرون خارج هذا الجو العائلي سيفتقدون إلى الموجّه الأول لسلوكهم والمكوّن الأول لشخصيتهم ، وسيفتقدون الكثير مما تمنحه العائلة ، وأخيرا فلن يقدروا  على منح الآخرين ما افتقدوه ، فـ فاقد الشيء ....لا يعطيه ! وبهذه القاعدة تمت دراسة العديد من الحالات في أروقة مراكز الإرشاد والعلاج الأسري .
قادني هذا إلى اختيار موضوع الأيتام والإبداع في بحث الدكتوراه ، ومفهوم الذات عند أبناء المطلقين في بحث الماجستير . وعلى الرغم من وجود آثار واضحة لليتم أو الطلاق على شخصية الطفل  لم أجد ومن خلال بحثي في تلك الآونة سوى القليل من الدراسات التي تناولت سيكولوجية الطفل تفصيلا خارج المنطلق الديني الذي يبين واجبات المجتمع تجاه هذا الطفل وكيفية التصرف معه . في حين تناولت القليل جدا من الدراسات الخبرات المؤلمة التي تؤثر على سعادة الطفل وهو ما يؤدي بدوره إلى اضطرابات عدة كالقلق،  والخوف ،  أو الاكتئاب  وتكوين مفهوم سلبي عن الذات . لكني حتى هذه الآونة لم أعثر على دراسات تتبعية كافية لأثر اليتم أو الطلاق على شخصية الطفل في زمن لاحق من حيث السلوك و القدرات والصفات والسمات .
وإذا كانت كل الدراسات والأبحاث ومعطيات الواقع تؤكد أن كفة الأسرة ترجح بقوة أمام كل مؤسسات التنشئة الأخرى ، باعتبارها الجماعة الإنسانية الأولى التي يقع على عاتقها توفير قسط كبير من واجب التربية الخلقية والوجدانية والدينية في جميع مراحل الطفولة ، ولا تستطيع أية مؤسسة عامة أن تسد مكان الأسرة في خلق الاتجاهات الاجتماعية الأولى للطفل وتزويده بالعواطف وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية والأطر الثقافية التي ينمو فيها ! إذا فكيف استطاع بعض الأيتام العصاميين أن يبنوا أنفسهم بأنفسهم وينجحوا في حياتهم الاجتماعية وفي بناء أسرهم ؟!  كوالدي مثلا !
والدي الذي يصادف اليوم السابع عشر من مايو ذكرى رحيله ، الرجل الاستثنائي الذي يحق لي أن أطلق عليه مصطلح SELF-MADE أي كوّن نفسه بنفسه دون مساعدة أهل أو مال أو جاه او نفوذ.
والدي الفقيراليتيم الذي جاء لهذه الحياة ولم يتحسس في طفولته تقاسيم وجه  أمّه ولم يجرّب نبرات صوت أبيه وهو يعانقه أو يعنّفه . كان أبي رحمه الله يروي لنا قصص طفولته يتيما ينام مشرّدا وحيدا في الحقول والمزارع حيث لا من موجّه لسلوكه سوى التأمل في هذا الفضاء الكبير الشاسع الذي كان يقطعه ببصره كل ليله .
كان والدي محبّا للعلم ، رغم أنه ولد وعاش طفولته أميّا لا يقرأ ولا يكتب . وظلّ يحثنا على حب العلم منذ طفولتنا ، ويصرّ على إكمال تعليمنا للمراحل العليا ، كان يعتبر عدم إكمال التعليم هو المسئول عن الفقر والجهل والعادات المتخلفة في القرية . وكثيرا ما كان يردد أن العلم يحرس أموالكم فلا تجعلوها بلا حارس. غرس حبّ العلم فينا منذ الطفولة فلا ينادينا سوى بـ يا معلم يا طبيب يا مهندس يا مدير .. وفي الستينات كانت له بادرة في تكريم أخوتي كل سنة مثلما تقيم المؤسسات الان حفلات تكريم المتفوقين ، ففي كل عام بعد انتهاء العام الدراسي يقيم في مجلس منزلنا حفلا صغيرا يدعو فيه جميع مدرسي القرية آنذاك لإلقاء الكلمات في الحث على العلم ثم يقوم بتوزيع الهدايا على أخوتي .
كان حريصا جدا على نتائجنا وتفوقنا ولا يرتضي سوى أن نتصدر لوائح الشرف . كان دائما ما يقلب المعادلات فعوضا عن أن يفخر الأبناء بأبيهم كان دوما يفتخر بنا جميعا في كل محفل للدرجة التي كان أصحابه يقولون " كأنّ ما في غيره جاب أولاد " ومن حرصه على التعليم فقد ضمّ أخواتي إلى المدارس في الآونة التي كان فيها تعليم البنات من المحرمات ، ورغم تعرضهن للكثير من الأذى إلا أنه كان يقف بصلابة واصرار خلفهن يحثهن على الصبر.
لم يركن أبي لأميّته بل سعى للعلم وكانت أمّي مفتاح تعليمه ، فقد تزوجها وهي حافظة للقرآن فطلب منها أن تعلّمه القرآن وكانت تلك بداية مسيرة التعليم لأبي .  أخذ أبي بعدها يقرأ القرآن بمفرده مع بعض الأخطاء وظل يختمه ويعود ويختمه ويعود حتى أتقنه.ثم انتظم في مجالس القرآن في شهر رمضان وكان لها الأثر الكبير في تعليمه ترتيل القرآن . بعدها التحق أبي بمدرسة محو الأمية للصف السادس حتى أتقن الكتابة بالعربية أما اللغة الانجليزية فقد تعلمها بعد انضمامه للعمل في شركة نفط البحرين ( بابكو ) . وهكذا أخذ أبي يقرأ ويقرأ ويقرأ ويعلمنا اللغة السليمة والألفاظ المهذبة ، فكل كلمات أهل الحي الدارجة لم تجرِ على ألسنتنا . كان أبي يتحدث اللغة العربية الفصحى في غالب أوقاته ولعل هذا سرّ تميزنا بالطلاقة اللغوية والشعر والأدب ، وكان سرّ لغته تلك قراءة القرآن والأذكار بشكل دائم .
أكثر ما أذكره من حياة أبي تقواه وعبادته ، فقد كان يحافظ على أداء الصلاة في أوقات الفضيلة ويوقظنا فجرا للصلاة وهو يقول : " قوموا يا أولادي للصلاة من ضيّع على الله أوقاته ضيّع الله عليه أوقاته " ، ويعرف الجيران صوته الذي كان مجلجلا في قراءة القرآن فجر كل يوم . لا أستطيع حتى هذا اليوم نسيان صورة أبي ساجدا باكيا في صلاة الليل تاليا للقرآن بخشوع ودموعه تتحادر على وجنتيه. كان حريصا على تربيتنا دينيا فكان يأخذ بيد أخوتي لصلاة الجمعة في منطقة عالي خلف سماحة الشيخ ابراهيم رحمه الله ماشيا حتى محطة النقل العام ، أما في الأيام الفضيلة كليالي القدر فكان يجمعنا جميعا صغيرنا وكبيرنا ويؤدي معنا أعمال تلك الليالي خاشعا متبتلا لله عزوجل . كان كثير الصيام والقيام حتى أننا لم نجتمع معه يوما على مائدة إفطار لكثرة تهجده في شهر رمضان ، وبعد صيامه يكتفي بالقليل من الطعام الذي لا يثقله عن إحياء تلك الليالي المباركة .
كانت الأسرة تشكل محورا هاما في كثير من مفاصل حياة أبي ، وعلى رأس أفرادها أمي ، ففي صبيحة كل يوم يذكرنا بأفضال أمي وتضحياتها لأجلنا ويمتدحها أمامنا ، ويعبر لنا عن مشاعره اتجاهها بعناق أو تقبيل دون خجل ويجد في ذلك المعنى الحقيقي للرجولة. كان منهج أبي في التربية " كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم " لازلت أذكر كيف شاركني تفاصيل طفولتي ونجاحي وتميزي وأحلامي وطموحي .. رغم السنوات الممتدة بيني وبينه إلا أنه لم تغف لي عين في صباي إلا وقد قضى معي أكثر من ساعتين متتاليتين في حكاية قبل النوم تسمّى آنذاك "الخرّافة" وبعد أن ينتهي يطلب مني أن أقول قصة جديدة من خيالي وينصت لها باهتمام شديد ثم يضمنا أنا وأختي الصغرى قبل النوم ويطلب منا قراءة سور من القرآن الكريم ويعاود هذه السيرةفي الليلة التي تليها دون سأم أو كلل. كان حريصا على تأدية واجباته الأسرية و لم يترك أبي واجباته كرجل البيت حتى وهو مريض بلا صوت والسرطان بدأ ينهش من قوة جسده ما تبقى ، يطلب من أحد أخوتي أن يسنده لكتفه ويحمله للسوق ليحضر حاجات البيت بنفسه .
كان دوما يرسم صورته الرجل التقدمي المتطور الذي يسبق جيله ويلتفت إلى حركة الأشياء من حوله ويعرف أن الزمن يتغير وعلى الإنسان أن يؤمن بحركة الزمن . كان أبي دائما صاحب نظرة مستقبلية ويحب التميز والاختلاف عن الآخرين فكان يجلب لأخوتي ما لم يعتد الآخرون بعد على لبسه واستعماله من أدوات وملابس . كان أول من ترك عادة الرجال في حلق شعورهم كاملة وكان يهتم بمظهره وقماش ثيابه وطريقة تفصال ثوبه . وهو وأول من بنى منزلا في منطقة توبلي الجديدة بمواصفات جديدة ، ومن أوائل من اشترى المذياع والتلفاز للمنزل حين كانت تلك الأشياء من المحرمات .
كان والدي يقدّس المرأة تقدسيا عظيما ، ظهر هذا جليا في تربيتنا فلم يكن والدي يتبنى فكرة أن الفتاة تخدم أخوتها الذكور ، بل على العكس كان ينظر لنا كأميرات وعلى الذكور خدمتنا فيما نريد  ولا يتورع أبي عن أداء بعض المهام المنزلية ، فهو يجيد الطبخ ويجيد غسيل الملابس وغسيل الأواني ولا يجد حرجا في أداء أي من تلك المهام إلا أن أمّي كانت لها وجهة نظر مغايرة تحول دون السماح له بأداء مهامها .
كان والدي قويّ الإرادة يفعل ما يريد ، وكان مصداقا للرجل الذي يغيّر الظروف كيفما شاء  ولا يترك لها فرصة لتغييره كما أرادت . فبالرغم من إدمانه للتدخين و الذي كان يستهلك طاقته وصحته وماله ، وبالرغم من هيمنة السيجارة عليه إلا أنه حين أراد أن يتوقف عن هذه العادة فعل ذلك فجأة ودون سابق إنذار ودون تمهيد ولم يعد للتدخين في لحظة ضعف أمام سيجارته التي رافقها خمسين عاما . يعرف والدي نفسه جيدا ويثق بإمكانياته وقدراته ويثق أنه متى ما أراد اقتطاف النجوم من السماء فلن يثنيه بعد المسافة .

لقد أورثنا رحمه الله حبّ الناس وخدمتهم ، حبّ العطاء وحبّ الفقراء ، حبّ العلم وحب العمل ، حب النقاش  والترفع عن الخلافات وإمساك العصا من المنتصف والتوفيق بين المتناقضات .. من أجمل ما فيه كلّ ما فيه .. فطبت من أبّ أعطانا كل ما فقده ..وأجزل العطاء !..  

الثلاثاء، 12 مايو 2015

رجلٌ مثل أمّي


بقلم : انتصار رضي / مايو 2015

في الأسطورة السومرية ( الأم ) :
الشمس ذهبت لتنام، النهار انقضى،
فيما أنت في السرير تحدقين فيه،
فيما أنت تمسدين الرّب،
فيما أنت تمنحينه الحياة،
امنحي الرب الصولجان والمحجن !!


في المجتمعات البدائية كان النشاط الاقتصادي الأبرز الذي تمارسه جماعات عديدة هو الصيد والرعي . و آنذاك كانت الأحوال البيئية الصعبة تفرض على سكان المجتمع البدائي التنقل والترحال بحثا عن الفريسة، إذ كان من النادر أن تقيم المجموعة في مكان ما لمدة تتجاوز الأربعة أشهر . حرصت المجموعات البدائية بتلك الآونة لاستثمار الحيوان بشكل تام تقريباً بعد أن عرفوا إمكانية الاستفادة منه لتحقيق معيشة أفضل . وبناء على هذه الظروف المعيشية القاسية فقد كان الرجل هو من يتصدى لمهنة الصيد والرعي ، وكانت المجتمعات البدائية آنذاك تعدّ الشباب للإنتقال لمرحلة الرجولة في طقوس قاسية جدا تجعله يستطيع الاعتماد على نفسه في قوت يومه ، والكشف عن قدرته في مواجهة الصعاب وتحمل المخاطر .
كان الرجل هو سيّد المشهد من ناحية اقتصادية واجتماعية خاصة بعد كل تلك الممارسات والطقوس القاسية التي قد تصل أحيانا إلى نزع أسنانه وتشويه وجهه  بغية قياس قدرته على احتمال الصعاب . في حين لم تكن المرأة في بقعة الضوء في تلك الآونة بل كانت مملوكة للرجال يتصرفون بها كيفما شاؤوا ، و كان كل ما عليها آنذاك هو الدفاع عن العائلة والأطفال بالإضافة إلى مسئولية حمل الطفل في رحمها لتسعة أشهر والإنجاب وإرضاعه .
ومع بداية عصر الزراعة حين بدأ الإنسان يفكر في البقاء بموطنه عوضا عن التنقل والترحال الذي كان ديدنه في عهد الرعي والصيد ، فبذر بذرة سقط عليها المطر فاخضرّت وأينعت وجاءت بالثمر الذي استخدمه لطعامه وعلفا لماشيته ، هذا العمل كان يستلزم الكثير من الأيدي العاملة للحرث والحصاد وهنا برز دورا واضحا للمرأة داخل وخارج بيتها ، فكانت المرأة تعمل عملا دؤوبا في الحقل بالإضافة إلى مهماتها المنزلية التي احتفظت بها على مر العصور.
استقرار الإنسان في العهد الزراعي أدى للمزيد من الإنجاب وتضاعف المسئوليات اتجاه بناء القرى والأرياف والتوسع فيها ، ولعل تحمّل المرأة المزيد من الأعباء جعلها تبرز  قوية مسيطرة رغم وقوعها تحت سلطة القوانين التي اغتصبت حقوقها الانسانية قبالة ما كانت تقدّمه من تضحيات وكفاح مستمر ، إلا أن امرأة هذا العصر التي شكّلت محورا هاما في النشاط الاقتصادي الزراعي بقيت جبّارة و استطاعت أن تملك الرجل وتخضعه لسلطتها في الكثير من المجتمعات .
مع نهاية العصر الزراعي وبداية الثورة الصناعية وبناء المعامل التي كانت محور القوة الاقتصادية آنذاك ، عاد الرجل للسيادة كربّ عمل من جديد ، رغم الحاجة إلى المرأة في الأيدي العاملة إلا أن المصانع استغلت غالبية الطبقات  الفقيرة للعمل بأجور زهيدة وكان نصيب المرأة الأكبر في هذا الاستغلال ، إذ بقيت تعمل في ظروف عمل قاسية وتحافظ في ذات الآونة على أمومتها وأدوارها المنزلية . ومع تراكم سنوات التعسف والاستغلال للعمال والطبقات الفقيرة من جانب و تفاقم اشتداد الضغط على العمال في المصانع تبلورت الثورة التي شاركت فيها المرأة للمطالبة بحقوقها الإنسانية ، و تصاعدت وتيرة تلك المطالبات التي انتهت بالكثير من العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية و التي أقرّت باعتبار حقوق المرأة جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان ، وإذ ذاك بدأت المرأة تعود للصدارة من جديد !
ومنذ تلك الآونة وبصورة تصاعدية بدأت كلمة " المرأة " الشمّاعة التي تبرهن بها الدول ديموقراطيتها من خلال سعيها الحثيث لإيصال المرأة لعصرها الذهبي !  فولدت منظمات المجتمع المدني لتطالب بوجود المرأة في مواقع صنع القرار وتثبيت الكوتا دستوريا في الكثير من الدول التي همشت المرأة ولم تبادر بتمكينها . وساهمت تلك المنظمات بشكل كبير في القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة وتمكينها سياسيا واقتصاديا ، فالمنح المالية تصرف من أجل صناعة المرأة رائدة أعمال ، والمؤتمرات تدار حول إبراز المرأة كمبدعة ، والاتفاقيات توقع من أجل حماية المرأة من العنف ، والأموال تصرف من أجل إيصال المرأة إلى قبّة البرلمان حتى حاصرتنا أحزاب للمرأة ، جمعيات للمرأة ، منظمات للمرأة ، مجلس أعلى للمرأة ، اتفاقيات للمرأة ، مؤتمرات للمرأة ، مواثيق دولية للمرأة .. حتى بدأ عصر المرأة .. المرأة وحسب !
وإن سعت تلك الجهود لتحقيق الأبعاد الاستراتيجية للنهوض بحقوق المرأة ليس باعتبارها قضية آليات وقوانين وحسب بل باعتبارها قضية تربية وترسيخ ثقافة تنعكس على السلوك والرؤى والممارسات وتندمج في بنية المجتمع وتنتج حضارة ، إلا أن الواقع يعكس حقيقة أن المسألة لم تتجاوز كونها قضية آليات وقوانين ليس إلا ! كيف ذلك ؟
لنتأمل في الكوتا النسائية التي باتت تهتم بتخصيص حصة للمرأة وضمان ايصالها إلى مواقع التشريع وصناعة القرار وتعزيز مشاركتها في الحياة العامة ليس لأنها جديرة بذلك في كثير من الأحيان بل لأنها امرأة فقط ، و ايصالها إلى مراكز صنع القرار يعني الحد من عمليات الإقصاء والتهميش لها أو ضعف مشاركتها في الحياة ! ولأن هذه الكوتا وجدت فكان يجب أن تستثمر حتى وإن لم تكن تلك المرأة جديرة بهذه الحصة سواء كانت مقعد تحت قبة البرلمان أو عضوية في لجنة تحكيم بمسابقة أهلية ! ما نخلص إليه أن عصر المرأة بات يفرض المرأة في كل صغيرة وكبيرة كانت جديرة بها أو لم تكن . وبهذا تكون المرأة في عصرنا قد وصلت إلى أوج السيادة التي انعكست على كل مناحي الحياة ومنها الأسرة !
الأسرة التي تشكل نواة المجتمع الأولى والتي جاء الاسلام لينظم كيانها بصورة دقيقة لم تأت بها ديانة أخرى فقد اعطى الإسلام الانسان و منه الذكر و الانثي علي مقدار ما اودع جلّ و عزّ في وجوده من القابليّة و كلّف الذّكر و الانثي علي حسب ظرفه و سعة محلّه ، باتت اليوم صنيعة المرأة وحدها تتصرف في حاضرها وتصنع مستقبلها وتتخذ كل القرارات المصيرية فيها ! بتعزيز من كل مؤسسات المجتمع المدني والدولي .
أما الرجل فقد بات عاجزا عن اتخاذ القرار في أبسط الأمور الأسرية وما عليه سوى أن يرمي بالمسئولية التامة والانقياد الأعمى لقرارات المرأة وأن يرضى بالقيام بدور المتفرج على ما يحدث دون أن يكون له دور إيجابي في كل شئون الأسرة الصغيرة أو الكبيرة ، ولم يعد الرجل يجرؤ في الكثير من المجتمعات على تحمل رد فعل عدم توافقه مع قرار المرأة غير السليم والذي أثبتت نسبته دراسة في جامعة «هارفارد» الأميركية إذ أفضت إلى أنه بمعدل 60% من القرارات التي تتخذها النساء في فترات معينة من حياتهنّ تكون خاطئة ومتسرعة !
عاملة كانت أو ربّة منزل باتت المرأة اليوم هي من تقرر من تحب وكيف يتم الزواج وحيثياته ثم متى تنجب وكم من الأبناء ستنجب وكيف ستربي هؤلاء الأبناء وبأي المدارس سيلتحقون وماذا يأكلون وماذا يرتدون وماذا يفعلون ولأي وجهة يسافرون ومتى يتزوجون ومن يتزوجون وأين يسكنون ! إنها نموذج المرأة الحديدية اليوم في عصر المرأة أما الرجل فعادة ما يقوم بدور المباركة لهذه الجهود الحثيثة التي تزيح عن كاهله أعباء ومسئوليات جسيمة، وقد لا يشعر بفداحتها إلا حين يقع في وحل الخسارات الكبرى لتلك القرارات الـ 60 % والتي تأخذها المرأة في لحظة ضعف أو غضب !
ما هي نتائج عصر المرأة ؟؟ نسب طلاق تجاوزت معدلات الزواج ، خيانات زوجية ، وتفشي الاضطرابات النفسية والاضطرابات السلوكية عند الأبناء بعد غياب شبه كلّي للسلطة الأبوية ! {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} .
جمعيات ومنظمات حقوق المرأة اليوم لم يعد من مهامها صناعة حقوق المرأة بل هي اليوم تحصيل حاصل لهذا العصر وهو عصر المرأة ، و لم يعد الرجل قادرا على اتخاذ أي قرار عملي ضد المرأة .. فأنصارها كثر ! و المرأة تستطيع اتخاذ أي قرار مدمّر دون أن يرفّ لها جفن . أما الأبناء فهم الخاسر الأكبر من هذا التفرّد في السلطة للمرأة والإنسحاب الكلي للآباء ، باتوا يكبرون في كنف أباء غائبين رغم حضورهم افتقدوا مصدر الحماية والأمان ، وكثيرا ما غرقوا دون ربان السفينة التي يقودها بفطنته ليحمل أبناءه إلى شواطئ الأمان... ويرسو بهم في برّ الثقافة الفكرية والعلمية .


سأل طفل والده مامعنى كلمة «رجُل»؟
فأجابه الوالد إن «الرجُل» هو الشخص القوي المسؤول عن أبنائه والذي يهتم بأمورهم ويسهر على راحتهم.

 فرد الطفل: أتمنى أن أصبح رجُلاً مثل أمي !